قمة الاتحاد الإفريقي في انواكشوط: عزيز على خطى ابن ياسين

يستحيل واقعا ومنطقا أن يكون من غرائب الصدف احتضان موريتايا هذه الأيام ولأول مرة منذ استقلالها عام 1960 حدثا قاريا هاما بأبعاد دبلوماسية وجيوسياسية دولية متعددة بحجم القمة الإحدى والثلاثين العادية للاتحاد الإفريقي.

فبالنظر إلى حجم التحديات الأمنية، و الاستحقاقات التنموية، والرهانات الجيوسياسية، التي خاضتها وكسبتها موريتانيا بكل استحقاق طيلة السنوات العشر الأخيرة على مختلف الصعد الوطنية، والعربية، والإسلامية، والإفريقية، لاستعادة مكانتها المستحقة في كل هذه الفضاءات، وفي غيرها من السوح الدولية، بنجاح مشهود تدعمه واقعية التوجهات، وعقلانية الخيارات، وأبراغماتية النهج الدبلوماسي المطبوع بوضوح وأخلاقية موازين التفاعل مع مكونات محيطها القاري والإقليمي والدولي. فليس من الغريب والأمر ذاك أن تنال بلاد المرابطين وبشكل مضطرد خاصة في السنوات السبع المنصرمة ثقة متصاعدة من لدن المنتظم الإفريقي والدولي بوصفها نموذجا مثاليا للاستقرار المؤسسي، والسياسي، والأمني، والتنموي، في محيط سريع التقلبات، متعدد الهزات، مضطرب الأوضاع بفعل موجات الحروب الأهلية، والنزاعات المسلحة، وانتشار العنف والإرهاب، وانتعاش الهجرات السرية والقسرية الناتجة عن أزمات اقتصادية خانقة في شتى أقاليم القارة، وانهيار دول بأكملها جراء هذا وذاك، فضلا عن استفحال الجريمة العابرة للحدود والاتجار بالبشر وتهريب المخدرات والسلاح والبضائع المزيفة، وغيرها من الظواهر الفتاكة التي استطاعت الجمهورية الإسلامية الموريتانية أن تتقي شرها وتتفادى شراراتها، وأن تنأى عن أتونها بكل حكمة وتبصر، كما استطاعت في خضم كل ذلك أن تحمل لواء السلام ساعية بكل ما أوتيت من تأثير بين في شتى المنابر الدبلوماسية الدولية إلى التخفيف من وطأة هذه الأزمات على شعوب ودول القارة التي اكتوت بنار الشقاق والخلافات والحروب.

إن استحضارا عابرا للأدوار البارزة التي لعبتها موريتانيا في تقريب وجهات النظر بين مختلف أطراف النزاعات والحروب والأزمات على المستويات الإقليمية والقارية، وما بذلته من جهود معتبرة على الصعيد الدولي للحد من تأثيراتها وتطويق مجالات انتشارها واستئصال أسبابها، سيقودنا دون عناء كبير إلى فهم واضح وجلي لمدى الثقة التي راكمت موريتانيا أصول تثبيتها وتدعيمها لدى الأشقاء الأفارقة والشركاء الدوليين والمراقبين والمهتمين بتتبع وتقييم مسارات الدبلوماسية الدولية.

ولقد برهن تسلسل الأحداث منذ تزعم موريتانيا لمجلس السلم والأمن الإفريقي عام 2011 ، ثم انتخابها عام 2013 نائبا أولا لرئيس الاتحاد الإفريقي، قبل انتخابها في السنة الموالية لرئاسة الاتحاد، بعد أزيد من 42 عاما من تزعمها للمنتظم الإفريقي، ثم ما تلاه من تزعمها لعديد اللجان والآليات الإفريقية المختصة في شتى المجلات، إذ برهن كل ذلك على أن الجمهورية الإسلامية الموريتانية قادمة بقوة، وفي وقت قياسي، إلى واجهة العمل الدبلوماسي الإفريقي والدولي النشط والفعال، وهو ما تأكد خلال تزعمها لعديد القمم التاريخية قاريا وإقليميا وعربيا ودوليا، ليس أقلها أهمية ولا شأنا ـ بالنسبة لبلد قادم لتوه من عقود طويلة في متاهات الركود الدبلوماسي والتهميش الذاتي و الدولي ـ ليس أقلها قيمة قمم الاتحاد الإفريقي العادية خلال المأمورية الموريتانية  على رأس الاتحاد، فضلا عن تزعم قمة مؤتمر الجامعة العربية التي احتضنتها وترأستها انواكشوط لأول مرة في تاريخها عام 2016، بعد أن تزعمت أشغال القمم الإفريقية ـ الأمريكية، و الإفريقية ـ الأوروبية، و الإفريقية ـ الصينية، على التوالي، تكريسا لصيتها الدبلوماسي المشهود خلال زعامتها المتميزة للاتحاد الإفريقي.

ولأن التاريخ المجيد قد يحاول أحيانا إعادة نفسه، خاصة حين تتكرر نفس ظروف التألق التي أحاطت بميلاد حدث تاريخي معين في مكان ما، ووفقا لمسار موضوعي تراكمي مشابه لأسباب قيام ذلك الحدث، فها هي ذي بلاد المنارة والرباط تعيد كتابة تاريخها مرة جديدة، وتقريبا في ظروف إنسانية وتاريخية وجيوسياسية مشابهة ـ مع حفظ الفوارق والأصول ـ لتلك الظروف التي انطلقت فيها الحركة الإصلاحية المرابطية  قبل ما يقارب عشرة قرون من جزيرة تيدره الموريتانية ، الواقعة في عرض المحيط الأطلسي على بعد مائتين وخمسين كيلومترا شمال غرب انواكشوط مكان انعقاد القمتين العربية 2016 ، والإفريقية 2018 ، وغير بعيد عن ولاية الحوض الشرقي الموريتانية حيث أطلال مدينة كومبي صالح عاصمة إمبراطورية غانا، إحدى أقوى الممالك الإفريقية التي حكمت غرب ووسط القارة لعدة قرون قبل قدوم الفتوحات العربية والإسلامية إلى إليها.

كما أنه من محاسن انعقاد القمة الإحدى والثلاثين للاتحاد الإفريقي في انواكشوط أنها تنعقد في قصر دولي جديد للمؤتمرات سمي بـ:"بالمركز الدولي للمؤتمرات ـ المرابطون" ، كما أنه من تلك المحاسن أنها تتجه لاختيار عنوان "محاربة الفساد" شعارا لهذه القمة، إذ أن اختيار شعار كهذا من لدن القادة الأفارقة في قمة انواكشوط ، يوحي بجهد إصلاحي جاد يذكرنا بنفس المرامي الإصلاحية للحركة المرابطية التي انطلقت من بلاد شنقيط  لتكتسح أجزاء كبيرة من غرب وشمال إفريقيا وحوض البحر الابيض المتوسط وجنوب الأندلس، مع اختلاف دوافع وأسلحة وشخوص وأهداف وطبيعة الملحمتين، فإحداهما معركة إصلاحية سلاحها السيف والقلم، والأخرى معركة جيوسياسية سلاحها العمل الدبلوماسي بشكليه الثنائي ومتعدد الأطراف، سعيا لتكريس وجود موريتاني فعال ومؤثر ومثمر قاريا ووطنيا ودوليا.

فكما سار أجدادنا عبد الله بن ياسين، وأبو بكر بن عمر، ويوسف بن تاشفين على دروب الجهاد لإعلاء كلمة الحق وإرساء موازين العدل بين الأمم والشعوب في عصرهم، وطبقا للوسائل المتاحة أنذاك لتحقيق أهدافهم، وبالمنطق السائد في زمانهم،  فها هم أحفادهم اليوم بقيادة فخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز يسيرون على خطى بن ياسين عبر دروب النهج الإصلاحي المرابطي ، حذو الخطى بالخطى ، ولكن بوسائط دبلوماسية معاصرة سلاحها الوعي الثابت بأن الجمهورية الإسلامية الموريتانية لن يتسنى لها أن تستعيد مكانتها التاريخية المحورية كمنطلق للفعل الحضاري البناء، إلا حين تعيد رسكلة وتحيين منطلقات وأسباب ودوافع ووسائل المناعة الحضارية الموضوعية، في وجه الأمواج الجارفة للمد الاقتصادي والثقافي والسياسي "المعولم" ومن خلال العمل يدا بيد مع الإخوة الأفارقة من محيطها المباشر وفضائها القاري الأوسع، كما هو الحال بالنسبة للأشقاء في الفضاءين الإسلامي والعربي، على رص الصفوف في مواجهة ذلك المد الموسوم بشعارات بارزة، لا رحمة فيها لمن يعيشون على الهامش، ومؤداها باختصار أن: "من لا يصنع أسباب بقائه بسواعد بنيه فهو لا  محالة زائل" ، وأن: "من غاب غاب سهمه، ومن حضر قسمنا معه...".

تلكم هي الواقعية البراغماتية التي أبت الجمهورية الإسلامية الموريتانية إلا أن تتأبطها طيلة العشرية الأخيرة تحت قيادة فخامة رئيس الجمهورية الأخ محمد ولد عبد العزيز، متشحة برداء دبلوماسي قوامه أخلاق الفروسية بدلالاتها المعاصرة، لتستعيد مكانتها الطبيعية في صدارة الأمم الفاعلة وفي مركز عملية التكامل الجيوسياسي بينها ومختلف فضاءات عمقها الحضاري إسلاميا، وعربيا، وإفريقيا، إحقاقا لكونها قنطرة أبدية وعصب لحمة مكينة بين كل هذه المجالات الإنسانية.

بقلم الكاتب الصحفي/المختار ولد عبد الله