تعطيل أبرز الأجهزة الرقابية .. هل انتهى عصر "الشفافية"؟

شكلت محاربة الفساد ومواجهة المفسدين أبرز الشعارات السياسية للرئيس الموريتانى محمد ولد عبد العزيز طيلة المأمورية الأولى من حكمه، وكانت أغنية داعميه فى كل المجالس التلفزيونية والمهرجانات الخطابية بل والمجالس الخاصة، مع تجريد واعتقال وإقالة حسب الظرف وضعف الحماية لدى الموظفين المستهدفين.

 

لم يسلم الوزراء من ضريبة الشعار، فزج بالبعض فى السجون بتهمة الاختلاس وطرد آخرون بتهمة الضعف أو ارتباك أخطاء فى التسيير فادحة، ونال رئيس الجمعية الوطنية نصيبه غير منقوص فى مهرجان قدر عدد المشاركين فيه بأكثر من 100 ألف شخص، واستمع رئيس مجلس الشيوخ لتحذير مشابه من أعوان الرئيس.

ولم تسلم الطبقة السياسية المعارضة من ضريبة الشعار ، فقد تسلم عدد من قادة الأحزاب تهمهم جاهزة عبر مقابلات الرئيس المتكررة أو مهرجاناته الجماهيرية، وباتت قيادات الصف الأول من المعارضة مابين قلق من الاعتقال على خلفية التسيير ابان ممارسته للسلطة ، أو متهم بإيواء فاسدين تربوا على أكل المال العمومى طيلة الأحكام السابقة والتستر على مرتكبى جرائم مالية بحق الشعب المسكين.

 

نجح الرئيس فى بداية الأمر فى توجيه ضربة قوية لعدد من صغار الموظفين، واجبر فاعلون على الاختفاء عن المشهد، وتعلق معارضون كثر بأسوار البيت الداخلى للأغلبية من أجل النجاة بالأنفس، واعتزل آخرون السياسية بعد أن ذاقوا مرارة السجن والملاحقة القضائية، ونجح النظام – نسبيا- فى تشويه صورة آخرين تمنعوا، وكادت دعايته أن تشوه نضال كبار الفاعلين فى الساحة خصوصا ابان أزمة الرحيل.

غير أن الأشهر الأخيرة من المأمورية الأولى حملت الكثير من الرسائل للرأى العام الداخلى والخارجى، وتغير فيها سلوك الرجل من "ثائر" ضد الفساد، إلى متعايش مع أبرز رموزه، بل إنه هو ذاته لم يسلم من التهم التى وزعها على معارضيه عشية استلامه للسلطة بالمجان، بحثا عن ألق جماهيري يعوض الشرعية المهزوزة.

 

لقد تغير أسلوب التعامل مع مسيرى المال العام بموريتانيا، وتوقف موقع المفتشية العامة للدولة عن التحديث، وباتت تقاريرها مجرد أوراق وعظية بين المفتش والضحية، وطريقة للابتزاز من أجل الحصول على المال "الدفع مقابل الإعفاء من العقوبة" دون نص قانونى واضح، أو مشروعية لفعل وكلاء المفتشية، الذين تحولوا إلى "قضاة" دون يمين، يتهمون الناس بحق أو بغيره، ويحسمون الأمر دون مرافعة، وتصدر أحكامهم دون شهود.

لقد تحول القضاء فى لعبة الرئيس والمفتشية إلى مجرد واجهة تشرع به أحكام السجن، بعد أن يعجز الضحية عن الدفع لجلاده أو يتطلع لإنصاف أو مسطرة مقبولة ضمن دائرة القانون.

 

لكن ثورة المفتشية لم تعمر، فقد أصيب الفاعلون فيها بالإحباط، وباتت انذاراتها محل رفض من النخب الإدارية والتنفيذية التى استوعبت شعار المرحلة، بل إن بعض ضحاياها السابقين استعادوا زمام المبادرة وعادوا لمرابعهم الأول، أو حظوا بالترقية بفعل الضغط الذي خضع له الرئيس 2011 واستمر إلى الآن.

كما حصنت مراكز إدارية ومؤسسات عمومية وقطاعات وزارية من التفتيش بفعل العلاقات الوازنة لمسيريها مع الدوائر الأمنية أو الاجتماعية أو السياسية المحيطة بالرئيس، وباتت قطاعات الدولة فى سباق مع الزمن من أجل الاستفادة من الحظوة التى تمنع صاحبها من التفتيش، وتحميه من دفع الغرامة، وتحصنه من السجن مهما كانت طبيعة المختلس ودرجة الاختلاس.

 

وخلال الفترة الأخيرة ظهرت مجمل الدوائر الرقابية عاجزة عن الفعل، مشلولة بفعل مرض رئيس احدى أهم المؤسسات الدستورية المكلفة بمراقبة التسيير دون تغييره، وتوظيف الآخر فى مؤسسة دولية دون اختيار خليفة له، وتولية متهم بالفساد أو التقصير على أقل احتمال كمراقب لتسيير الأموال العمومية بوزارة المالية.

لقد اظهر تعامل الرئيس مع محكمة الحسابات والمفتشية العامة للدولة ومفتشية المالية أن عهد النقاء الأخلاقى ولى، وأن التفتيش المزعج انتهى، وأن الفساد وأهله "زمرة" يمكن التعايش معها فى ظل النظام الجديد.