موديتانيا بين الضغوط الدولية وثوابت الدولة : لا تطبيع ولا خضوع / محمد لحظانه

في عالم تتشابك فيه المصالح وتتنافس فيه مراكز النفوذ، لم تعد الضغوط على الدول تُمارس بالوسائل التقليدية فقط، بل باتت تتجلى أيضًا في حملات إعلامية مُوجَّهة، تُبنى على تسريبات مشبوهة، وتُسوَّق تحت غطاء “السبق الصحفي”، لتخدم أجندات لا تخفى خلف ابتسامات التحليل أو عناوين الإثارة.

وما تتعرض له موريتانيا اليوم من استهداف إعلامي، كما ورد في تقارير بعض وسائل الإعلام الكبرى، وأبرزها ما بثّته قناة “العربية”، يُمثّل نموذجًا واضحًا لهذا النوع من الضغوط الناعمة التي تستهدف الخيارات السيادية للدول المستقلة، وتسعى إلى التشويش على سياسة خارجية متزنة، ترفض الاصطفاف، وتتمسك بثوابت راسخة لا تُقايَض.

لقد اختارت موريتانيا، بوضوح، نهج الاعتدال والتوازن، ورفضت الدخول في صفقات على حساب المبادئ. ومن هذا المنطلق، فإن ما تم تداوله إعلاميًا من “نية للتطبيع مع إسرائيل” أو مزاعم عن لقاء جمع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني برئيس وزراء الكيان الصهيوني، لا يستند لأي مصدر رسمي أو موثوق، وقد نفاه بشكل قاطع الوزير الناطق باسم الحكومة. فالرواية مختلقة، والخبر عارٍ من الصحة، ويمثّل نموذجًا لما يُعرف بالتمهيد الإعلامي للتطبيع، باستخدام الإثارة بدلًا من المهنية.

والمؤسف أن تصدر مثل هذه المزاعم من قناة بحجم “العربية”، التي كان من الأجدر بها التحري قبل بث خبر بهذا الحجم، بدل أن تسهم – بقصد أو بغير قصد – في الترويج لمزاعم تخدم خطابًا مشوَّهًا، وتستهدف بلدًا عربيًا اختار بوعي أن يظل وفيًا لتاريخه وموقفه من القضايا العادلة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

إن الاستقرار السياسي الذي تنعم به موريتانيا اليوم، والذي تجلّى في إشادات دولية متعددة، ليس مجرد مكسب داخلي، بل هو رافعة للمواقف المستقلة. وقد ظهر ذلك جليًا في النجاح اللافت للطاولة المستديرة الاستثمارية في فيينا، التي شهدت التزامًا دوليًا واسعًا بدعم جهود التنمية في البلاد. كما جسّدته ثقة القارة الإفريقية بانتخاب موريتانيا لرئاسة البنك الأفريقي للتنمية، وهو إنجاز نوعي يعكس ما تحظى به البلاد من احترام متزايد على الساحة القارية والدولية.

وقد يُزعج هذا الاستقرار البعض ممن يراهنون على الفوضى أو يضمرون العداء لمشروع الدولة الوطنية، لكنّه خيار لا رجعة فيه، وإرادة لا تتزحزح، لأنه ليس مجرد وضع مؤقت، بل تجسيد لرؤية متكاملة تُؤمن بأن الأمن السياسي شرطٌ للتنمية، وركيزةٌ للسيادة، وحاضنةٌ لكل إصلاح.

أما موقف موريتانيا من التطبيع، فهو واضح ومستقر، ولم يتغير. فقد رفضت القيادة الموريتانية – كما تؤكد مصادر موثوقة – عروضًا مغرية لفتح قنوات مع إسرائيل مقابل تسهيلات اقتصادية. وهو ما يعكس التزامًا وجدانيًا وشعبيًا، لا يقتصر على السلطة، بل يعبر عن ضمير جمعي يرفض أن تكون المبادئ سلعة تُباع وتُشترى.

ويبدو أن هذا الموقف المتزن، في سياق إقليمي يتسم بالاستقطاب، لم يُرضِ بعض الأطراف النافذة، فاختارت طريق التشويش الإعلامي، لتزرع الشك، وتفتعل البلبلة، في محاولة للنيل من القيادة السياسية أو إرباك الداخل.

الأخطر من ذلك أن تجد هذه المزاعم صدى لدى أطراف داخلية، قرأت في الإشاعة فرصة لتصفية حسابات سياسية، ولو على حساب المصلحة الوطنية. فبدل أن يكون الاصطفاف خلف الدولة موقفًا مبدئيًا، انساق البعض إلى الترويج لأخبار مفبركة، وكأن الوطن خصم لا بد من إحراجه، لا سقفًا يحتمي به الجميع.

وفي السياق ذاته، لا يمكن فصل ما أُثير مؤخرًا حول لقاء الرئيس الغزواني مع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عن هذا المسار. فرغم أن اللقاء موثّق، وجاء في سياق تنسيق دبلوماسي مشروع، وانتهى بإشادة واضحة بالرئيس الموريتاني، أصرّ البعض على تحريف دلالاته وتأويله بشكل سلبي، في محاولة لتحجيم أي إنجاز يمكن أن يُحسب للدولة.

وفي مواجهة هذا النوع من الحملات المُغرضة، يُواصل النظام الموريتاني جهوده لتكريس اللحمة الوطنية وتحصين الجبهة الداخلية، من خلال الدفع بمشروع الحوار الوطني المرتقب، الذي يُراهن عليه كإطار جامع لمعالجة التباينات وتعزيز الثقة بين مختلف الأطراف. فالوحدة الوطنية لم تكن يومًا ردة فعل ظرفية، بل خيارًا استراتيجيًا تُراكم الدولة من أجله، وترى فيه الضامن الأول لسيادة القرار واستقلال الموقف.

إن الإعلام العربي، وخصوصًا المنصات ذات الانتشار الواسع، مطالَبة اليوم بأكبر قدر من المسؤولية. فالمصداقية لم تعد خيارًا، بل شرطٌ لثقة الجمهور، وركنٌ من أركان المهنية. أما الإثارة المجانية، المبنية على معلومات مفبركة أو مُسيّسة، فلا تُنتج سوى الشك، وتُفقد المؤسسة الإعلامية ما تبقى من رصيدها.

بقلم: محمد لحظانه – المستشار الفني لوزير التجهيز والنقل، مكلف بالنقل الجوي

#تدوينات
#زهرة_شنقيط
#تابعونا