ما ذا تبقى من حلم الثالث والعشرين من يوليو الثوري؟ ( الحلقة الثانية)

بين الإخوان وناصر


ولدت العلاقة عكرة المزاج قلقة كأنما تتقاذفها الأمواج من كل جانب وظل منحناها البياني مضطربا،مايكاد يصعد إلا ليهبط مرة أخرى ،لن أستفيض هنا في بسط كل ما كتب حول تلك العلاقة-وهو بالمناسبة كثير-من أنصار هذا الطرف او شانئي ذاك ،بقدر ما سأركز على ما يسمح به المقام والسياق مما أراه داخلا دخولا بينا ضمن دائرة المشترك من المسؤولية الأدبية أوالأخلاقية ،في ما حصل من توتير للعلاقة من كلا الطرفين سواء بسواء.

إن القدرة على فهم،واستيعاب ما حصل من نهاية اتراجيدية مؤلمة لتلك العلاقة وبمثل تلك الوتائر المتسارعة ،قد لايتأتى دون الرجوع القهقرى ولو قليلا لاستنطاق أحداث سابقة على " الحدث نفسه" ،لنكون في معنى الحدث لاصورته فقط،وإلا صرنا أشبه بمن يحاكم وعي حقبة، بعقلية وأدوات أخرى مباينة لها زمانا وحالا.

عصر الهضيبي

جاء الرحيل المفاجئ للمرشد الإمام حسن البنا شديد الوقع على الجماعة،في حين كان أغلب كوادرها لايزال يقبع خلف القضبان،ردا على حادثة مقتل رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي،على يد أحد أفراد الجهاز الخاص التابع للجماعة في :الثامن والعشرين دجنبر من العام :1948،وهي الأحداث العامة التي أسهمت بجانب أخرى داخلية في تأخير الإجراءات التنظيمية المتعلقة باختيار المرشد الذي سيخلف الإمام البنا -رحمه الله-لغاية التاسع عشر من اكتوبر: 1951..،حيث جرى انتخابه بصفة رسمية من قبل الهيئة التأسيسية للحماعة.
وقد جاء اختيار المرشد الجديد المستشار: حسن اسماعيل الهضيبي بك من خارج الصف القيادي الأول المعروف من الجماعة ،كما قال الشيخ يوسف القرضاوي:تفاديا للخلاف المتعلق بصعوبة الإختيار بين أسماء كبيرة تقع كلها ضمن الدائرة القيادية المقربة من المرشد الراحل :كالشيخ أحمد الباقوري، والأساتذة :صالح شعراوي ،عبد الحكيم عابدين ،عبد الرحمن البنا...

إضافة إلى عامل آخر لم يتطرق إليه القرضاوي وهو ذلك المتعلق بحاحة الجماعة لشخصية قانونية من طراز الهضيبي، تضبط إيقاعها وتزيل بعض التشوه الذي علق بصورتها لدى الرأي العام (وضاعفت منه صحافة القصر الصفراء) ،جراء حوادث الاغتيال التي أقدم عليها أفراد ينتمون إلى الجهاز الخاص التابع للجماعة .

كان تسيير العلاقة مع تنظيم "الضباط الأحرار" ،ومن ثم مع القائد الفعلي لمجلس قيادة الثورة واحدا من تحديات اربع رئيسية جابهت المرشد الجديد في بداية عهدته،سيكون نجاحه في الاستجابة لها بالقدر الكافي من عدمه (على بعض التفاوت في الأهمية ) ،حاسما ومؤثرا في تحديد مستقبل الجماعة ،وضبط مسار علاقتها لاحقا مع الوريث الجديد للسلطة(مجلس قيادة الثورة ) احترازا من تكرار تجارب الماضي القريب مع حكومات القصر الست المتوالية :

1-تمثلت أولى التحديات في محاولة ملأ الفراغ الهائل الذي خلفه الرحيل المفاجئ للمرشد والقائد الملهم للجماعة في فترة هي أحوج ما تكون إليه،فقد كان الهضيبي حينها قليل الخبرة والتجربة تنظيميا لحداثة انتمائه نسبيا للجماعة (خبرة تسع سنوات فقط حيث انضم:1942) ،ينضاف إلى ذلك ماكانت تفرضه طبيعة عمله الوظيفي (القضاء) من تفرغ وعزلة عن المجتمع،حيث كان مجهولا لدى كثيرين من كوادر الجماعة،ولم يستقل من سلك القضاء إلا بعد ترسيمه مرشدا،وهو ما تسبب في حرمانه من فرصة الاطلاع على الكثير من أسرار وخبايا الجماعة ،إضافة إلى تحصيل القدر الضروري من مراكمة الخبرة التنظيمية والإدارية اللازم توافرها في من يتبوأ المركز القيادي الأول في الجماعة ،وهو التحدي الكبير الذي يعتقد الإخوان أن مرشدهم قد نجح فيه إلى حد كبير، كما تدلل على ذلك شهادة خلفه عمر التلمساني: " ثم شاء الله أن ينتخبه الإخوان مرشدا لهم فصادف الإختيار صاحبه وملأ الرجل مكانه لأنه كان إخواني النزعة منذ معرفته بالإمام الشهيد حسن البنا ".

أما خصوم الجماعة فكانوا يتهمونه بالإنسحابية والقصور الإداري،والإفتقار للشخصية الجامعة المستوعبة التي كان يتمتع بها سلفه -رحمه الله-واللجوء بدل ذلك إلى " سلاح الفصل" لمعالجة الانشقاقات والتصدعات العديدة التي تعرضت لها الجماعة على أيامه،فطال الفصل شيوخا وقادة كبارا من الصف الأول من أمثال الشيخين احمد حسن الباقوري و محمد الغزالي إضافة إلى صالح عشماوي وعبد الرحمن السندي ...ولم يقتصر الأمر على ذلك بل سعى بزعمهم -رحمه الله-إلى وضع يده على الجماعة ،عندما قبل تزكية "الهيئة التأسيسة" له مرشدا مدى الحياة، في جلستها المنعقدة في الثالث والعشرين من سبتمبر :1954

2-وتمثل التحدي الثاني في الحاجة إلى تلطيف اجواء العلاقة المحتقنة مع القصر: وهو ماحدث بالفعل حيث التقى الملك فاروق في غضون شهر من اختياره مرشدا أي في:20/11/1953 نحو الساعة من الزمن ،وخرج دون أن يدلي بتصريح يشفي فضول الصحافة التي لجت في سؤاله ،مكتفيا بالتعليق :"زيارة(او مقابلة بحسب رواية المرحوم التلمساني) كريمة لملك كريم " ،وعن مادار في ذلك اللقاء يقول محمود عبد الحليم صاحب كتاب :الإخوان :أحداث صنعت التاريخ: "اعتذر الملك فاروق للمرشد عما أصاب الجماعة، وأنه من عمل السعديين(أنصار سعد زغلول) ،وحكومتهم، وأنه من أقال حكومة ابراهيم عبد الهادي الذي كان وراء التنكيل بالجماعة ..."، وعلى ما يبدو فقد تمت التهيئة لتلك المقابلة بخطوات تمهيدية من طرف الجماعة تمثلت إحداها في إصدار بيان بتاريخ :11/اكتوبر/1951 أعرب عن التأييد لخطوة الحكومة المتعلقة بإلغاء "المعاهدة المصرية البريطانية " حيث وقع فاروق مراسيم الغائها المقدمة إليه في نفس اليوم من طرف رئيس الوزارة مصطفى النحاس ،و أعرب البيان عن : " استعداد الجماعة التام لمؤازرة الحكومة،والتعاون معها في كل عمل ايجابي يؤدي إلى الإستقلال ووحدة الوادي ".1
وقد اثمراللقاء انفراجة سريعة في الوضع بين الطرفين،حين تراجعت الحكومة عن قرارها السابق القاضي بمصادرة المركز العام ،ودور الفروع ،وداري الصحافة والطباعة... وذلك بناء على حكم لمجلس الدولة اعتبر" أمر حل الجماعة الجماعة باطلا من أساسه ، وخارجا حتى على حدود سلطة الحاكم العسكري نفسه" .

3-وأما التحدي الثالت الملح : فهو ذلك المتعلق بضرورة لجم " النظام الخاص" الذي بدأ في التغول والخروج عن السيطرة خصوصا خلال السنة الأخيرة من حياة الشهيد البنا،الذي كان قد أنشأه في العام:1940 وضم إليه العناصر الأكثر لياقة بدنية وقدرة على الصبر والتحمل،والاستعداد للتضحية ،والانضباط،وحدد أهدافه في مقاومة الوجود الإنكليزي بمصر،ومقاومة العصابات الصهيونية بفلسطين ،حيث نفذ الجهاز العديد من العمليات البطولية النوعية في حرب فلسطين،ومنطقة القنال بمصر...حيث اختار المرشد لقيادته في البداية صالح عشماوي ثم محمود عبد الحليم الذي أداره لفترة قصيرة قبل أن تضطره ظروف عمل قاهرة للتخلي عن قيادته لصالح الشاب الطموح ذو الجلد والشكيمة القوية :عبد الرحمن السندي وذلك في حدود 1941م،حين وافق المرشد على ترشيح محمود عبد الحليم له،لتلك المهمة الحساسة.

تمثلت أولى الحوادث الصادمة لذلك الجهاز في تصفية القاضي :أحمد الخازندار على يد اثنين من عناصر الجهاز،ردا على إصداره أحكاما قاسية بحق مجموعة من شباب الجماعة نفذت عملية ضد الانكليز، وحين علم الإمام البنا بالعملية استدعى" مكتب الإرشاد" رفقة السندي وقال لهم:"اشهدوا على ما أقول ..هذه الجريمة في عنق السندي ،وهو الذي سيسأل عنها بين يدي الله".

جاءت الضربة الثانية للجهاز أكثر إيلاما وحرجا وكلفت الجماعة غاليا حياة مرشدها، حين بادر أحد أفراده(الطالب عبد المجيد أحمد حسن) و من تلقاء نفسه (كما أكدت ذلك مصادر الجماعة) باغتيال رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي ف:28/12/1948 ،انتقاما كما قال من حله للجماعة وجزاء وفاقا لدوره في صفقة توريد " الأسلحة الفاسدة" للجيش المصري في حرب 1948 التي أبرمت في عهدته الوزارية ،واستبشع الإمام البنا الحادثة وتبرأ من فاعلها في بيان صدره بعنوان :"ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين " ،وبعد مضي أقل من الشهر على العملية لحقتها ثانية من تدبير أحد شباب الجماعة عندما حاول نسف "محكمة الاستئناف" بعبوة حارقة ،وقد لحقه أحد المخبرين ،دون إصابة أحد بأذى، وأدان الإمام الواقعة الثانية بمثل ما أدان به صاحبتها ،غير أن يد السعديين الباطشة المدعومة من القصر كانت أسبق من كل عاذل ،فتسللت إلى الإمام لتغتاله تحت جنح الظلام ثأرا لمقتل زعيمهم النقراشي.

في هذا الجو المحتقن ،يتسلم الهضيبي قيادة الجماعة،فيدرك بحسه القانوني الأمني -وهو رجل القضاء-استحالة إدارة كيانين متوازيبن برأسين في جسم واحد ،سيما وقد بدأ احدهما في التغول على حساب الآخر،فشكل لجنة لدراسة وضعية الجهاز ضمت نائبه الدكتور محمد خميس حميده ،حيث عدلت عن فكرة حل الجهاز لصالح دمجه ضمن الجسم العام للجماعة وازالة ثنائية التنظيم التي كانت قائمة،كما اقترحت تنحية رجل التنظيم القوي عبد الرحمن السندي عن رئاسته ،حيث حل محله المهندس حلمي عبد المجيد أو يوسف طلعت (على اختلاف في الروايتين )،وجاءت ردة فعل السندي سريعة وقوية،فأرسل عناصر من الجهاز -لاتزال تحتفظ له بالولاء -لإقتحام منزل المرشد ومحاولة إجباره على كتابة الإستقالة ومن ثم تنصيب صالح عشماوي مرشدا عاما للجماعة بد لا عنه ،وهو مالم يرضخ له ،حيث تدخلت عناصر من الجماعة وتمكنت من طرد المهاجمين ،فما كان من مكتب الإرشاد إلا أن قرر فصل السندي صحبة آخرين منهم الشيخ محمد الغزالي ،وصالح عشماوي..وذلك في : 19/12/1953

وبذلك تجاوز المرشد واحدة من أخطر الإنشقاقات الداخلية وتمكن من تخضيد شوكة "الجهاز الخاص" وكبح جماحه عبر التخلص من رجله القوي المثير للجدل ،الذي جلب رفقة جهازه ،الكثير من المتاعب للجماعة وعرضها للعديد من المحن، حين انكفأت بعض سهامه للداخل ،منحرفة عن المسار الصحيح الذي رسمه الإمام البنا للجهاز ومنه استمد مشروعيته السياسية- وطنيا - والمبررات المسوقة لوجوده شرعا،فأصابت الجماعة في مقاتل حساسة قبل إصابة خصومها وهو مامهد الطريق- نسبيا -كي يتفرغ المرشد وباقي أعضاء مكتبه ،للملف الخارجي الثاني والذي مثل التحدي الرابع :

4-تسيير العلاقة مع الضباط الأحرار:حين اختير الهضيبي مرشدا كانت مجمل الملامح العامة للعلاقة بين الطرفين قد توضحت ،فلم يكن مطلوبا منه أكثر من رعاية وتسيير العلاقة وفق الخطوط العريضة المرسومة سلفا والتي يبدو انها كانت تفتقر للكثير من الوضوح والتحديد في أغلب نقاطها الحاسمة(ماسينعكس بالسلب لاحقا على طبيعة ومسار العلاقة)،فقد قامت الثورة في غضون تسعة أشهر من توليه منصب الإرشاد،وقد وافق كما تقول مصادر الجماعة على مشاركتها في الثورة وخصوصا من أفراد التنظيم الخاص الذين تكفلوا بحراسة المنشآت والمرافق العامة،إلى جانب طريق السويس- القاهرة تحسبا لأي تحرك من القوات الإنكليزية يستهدف إيقاف الثورة وحماية شرعية النظام الملكي ...

جرى أول لقاء بين المرشد وعبد الناصر خمسة أيام بعد قيام الثورة بمنزل عضو الجماعة صالح أبو رقيق -رحمه الله-فقال جمال بعدما صافح المرشد:"قد يقال لك إن احن اتفقنا على شيء...احنا لم نتفق على شيء" ،فرد عليه المرشد:"اسمع ياجمال ما حصلش اتفاق ،وسنعتبركم حركة إصلاحية ،إن احسنتم فأنتم تحسنون للبلد ،وإن أخطأتم فنوجه لكم النصيحة بما يرضي الله "،فلما انصرف عبد الناصر قال المرشد للذين حضروا اللقاء من الإخوان :" الرجل ده مافهش خير ،ويجب الاحتراس منه "2

وتؤكد الجماعة على وجود مثل ذلك الاتفاق ،الذي تنصل منه عبد الناصر أثناء لقائه المرشد ،كما قال اللواء صلاح أبو شادي :"وكانت وجهة نظرنا (يعني الجماعة فهو أحد قادتها ) تتلخص في أن مبادئ الإسلام هي الأساس الوحيد الصالح لحكم مصر ،ولعلاج الجانب السياسي،والاجتماعي و ،الإقتصادي ،وأقر عبد الناصر ذلك وأكد تمسكه بالإسلام أساسا للتغيير المنشود..."3

وقد خلف ذلك اللقاء أثرا سلبيا ،وولد انطباعا سيئا لدى كل من الرجلين عن الآخر،وبقى على ما يبدو أحد المحددات الناظمة لمسار العلاقة بين الجماعة ذات الخبرة التاريخية والبناء التنظيمي الصلب ،ورجل الثورة القوي المدرك جيدا لمايريد،والمتحفز لإزاحة كل من يعترض طريق مشروعه ،والرافض لأي شكل من أشكال الوصاية حتى ولو كانت من إخوان سابقين في ثوب حلفاء حاليين .

أكناته ولد النقره
_________________
الإحالات:
1-الوقائع الإخوانية:ص:58-مرجع سابق
2-المرجع السابق :ص: 62
3-صلاح أبو شادي :حصاد العمر :ص 214