برقية مستعجلة إلى بريد الرئيس المنتخب

بغض النظر عن الاختلاف في تقييم نتائج الانتخابات ودلالاتها السياسية، فإن المؤكد أن موريتانيا ماقبل 22يونيو 2019 تختلف عن موريتانيا ما بعد هذا التاريخ ،لاعتبارات سياسية ومجتمعية .

وهذا المقال عبارة عن برقية مستعجلة إلى بريد الرئيس المنتخب محمد ولد الغزواني، تأتي قياما بواجب النصح وإسهاما في إخراج البلاد من مضاعفات التدابر السياسي المنبثق من رحم التسلطية والإقصاء على مستوى النظام  والعدمية والحدية على مستوى المعارضة .

تصنف الديمقراطية الموريتانية في خانة المنطقة الرمادية أو ما يعرف بالنظم الهجينة أي أنها لا تزال  بحاجة إلى البدء في جملة تدابير و ترتيبات سياسية تمكنها  من الوصول إلى عتبات الترسيخ الديمقراطي . إن التحدي الأكبر في مسارات التحول الديمقراطي –كما يقول روبرت أ. دال- يتمثل في تعزيز الممارسات والثوابت الديمقراطية حتى تستطيع الصمود أمام اختبارات الزمن، والصراع السياسي.

لقد عكست نتائج الانتخابات الرئاسية  الأخيرة جملة من المؤشرات بالغة الدلالة يجب التوقف عندها وتحليلها وترتيب مواقف ذكية وسريعة بناء على معطياتها الصارخة، إن على الرئيس المنتخب محمد ولد الغزواني أن يفهم أنه فاز بأغلبية بسيطة في انتخابات صعبة ،فرغم خطابه المنفتح وشخصيته الاستيعابية  وتماسك الأغلبية السابقة خلفه والتفاف قوى معارضة حوله ،لم يستطع الفوز إلا بنسبة 52% ،مما يجعل شعار مرشح الإجماع موضع تساؤل سواء من جهة دقته انتخابيا أو تماسك فكرته الاستيعابية مستقبلا.

لقد اتضح أن 48  %من الناخبين صوتت ضد مرشح السلطة، فهل من الحكمة السياسية الاستناد إلى الفهم الميكانيكي للفوز /الخسارة ،والأغلبية /المعارضة ،وبالتالي الاكتفاء بإدارة البلد عن طريق الفريق الحائز على 52%، أم أن هنالك مستجدات ورهانات تتطلب الانفتاح على الأطراف التي حازت 48%من أصوات الشعب الموريتاني والعمل على إشراكها وإدماجها سياسيا.

إن نمط ديمقراطية الأغلبية الذي يعتمده النظام الدستوري الموريتاني - على غرار العديد من بلدان العالم- يمثل أحد المسببات الرئيسية للفشل في إرساء ديمقراطية راسخة في موريتانيا.وفي نظري تشكل مراجعة نمط الديمقراطية الأغلبية أولوية استثنائية ،والتفكير في صيغ أكثر ملاءمة تسمح بحل العديد من الإشكالات المزمنة المتعلقة بضعف المشاركة السياسية والإقصاء الممنهج لقطاعات سياسية وشعبية عن مراكز صنع القرار، إن نمط ديمقراطية الأغلبية المتبع غير قادر على حل هذه الإشكالات.

ولتجاوز هذه الحالة المقلقة ينبغي انتهاج أحد الخيارات التالية، وهي:

- التوجه إلى الديمقراطية التوافقية "فالنظم التوافقية تحقق درجات أعلى في مجموعة واسعة من مؤشرات جودة الديمقراطية، وسجلها أفضل في ما يتعلق بفاعلية الحكم"، لاسيما في المجتمعات المنقسمة.

- أو الإبقاء على نمط ديمقراطية الأغلبية مع ابتكار صيغ تقوم على الاحتواء وليس الاستبعاد، وتوسيع حجم الأغلبية الحاكمة بدل الاكتفاء بالأغلبية الضئيلة، وهو ما سيعزز فرص المشاركة السياسية والاندماج المجتمعي، وهو الخيار الأقرب  والأكثر قبولا  في الوقت الحالي.

إن تحقيق الترسيخ الديمقراطي في بلد مثل موريتانيا بانقساماتها الإثنية والمناطقية والإيديولوجية يتم عبر إقامة نظام ديمقراطي يراعي التوافق والاستيعاب السياسي وليس الاكتفاء بالأغلبية الميكانيكية التي لا تكون – في مثل هذه المجتمعات - غير ديمقراطية فحسب، بل تتسم أيضا بالخطورة، نظرا لأن "الأقلية التي يتم حرمانها بصورة متكررة من الوصول إلى الحكم سوف تشعر بالاستبعاد والتمييز ضدها، وقد تفقد ولاءها للنظام السياسي.

لقد أشار عالم الاقتصاد "أرثر لويس" الحائز على جائزة نوبل إلى أن "حكم الأغلبية والنمط السياسي الذي يحمله بين طياته والقائم على وجود حكومة في مواجهة معارضة يمكن النظر إليه باعتباره خلوا من الديمقراطية نظرا لأنه مبدأ يقوم على الإقصاء، فالمعنى الرئيسي للديمقراطية هو أنه ينبغي على جميع المتأثرين بقرار معين أن تتوفر لهم فرصة المشاركة في اتخاذ هذا القرار...: فاستبعاد الجماعات الخاسرة من المشاركة في صنع القرار أمر ينطوي على انتهاك واضح للمعنى الرئيسي للديمقراطية".

لقد أبانت الانتخابات الرئاسية عن توجهات انتخابية قائمة على أسس عرقية وفئوية رغم أن السبب الرئيس لبروز مثل هذه الاتجاهات يعود بالأساس إلى فشل الدولة في التنمية وترسيخ روح المواطنة، فعندما تفشل الدولة في أداء وظائفها يحدث أمران. أولا، يلجأ الناس إلى كيانات أخرى لإشباع احتياجاتهم المادية والمعنوية،أما الأمر الثاني فهو أن أواصر الحقوق والواجبات بين الشعب والدولة لا تتطور، وعندما تصبح القبائل والفئات والأعراق  المحور الرئيس لإشباع احتياجات الناس، تتدفق أشكال الولاء كافة في ذلك الاتجاه، كما يقول "غيورغ سورسن".

لقد أنجز"جوناثان فوكس" و"صموئيل ساندلر" دراسة عن مستوى الديمقراطية والنزعة الانفصالية. وخلصا إلى التأكيد على "العلاقة الخطية بين مستوى الديمقراطية وضعف النزعة الانفصالية، ولاسيما إذا كانت الأقليات عرقية أو لغوية. والديمقراطية التي تدار على أسس تراعي التوافق والتشاركية تمثل الإطار الأكثر ملائمة للمجتمعات التعددية.

إن الرئيس المنتخب مطالب بالعمل على إعادة الدولة إلى المجتمع، وإدماج مكوناته في الدولة، بإحداث تغيير مهم في الأسس التي وزعت، وتوزع، في إطارها حصص القوة في المجتمع، ليكون مدخلها عنصر المواطنة"، وإنهاء الممارسات الاستبعادية-الإقصائية التي كانت دوما أحد مصادر اختلال بناء الدولة وعدم استقرارها.

وبناء على ماسبق فإن الرئيس المنتخب محمد ولد الغزواني مطالب اليوم -خدمة لموريتانيا وديمقراطيتها- بالانفتاح على المنافسين السياسيين والقوى الداعمة لهم  واستيعابهم داخل حكومة توافقية موسعة تمتص حالة الاستقطاب والتوتر وتقطع مع عهد الإقصاء والتدابر السياسي وتعالج إرث الإخفاقات والاختلالات. على أن تتم في غضون عامين انتخابات برلمانية بعدها تتموقع هذه القوى السياسية وفق اختياراتها وحساباتها الخاصة، مع أن الأحسن لموريتانيا في الوقت الحالي جعل المأمورية الرئاسية الحالية مرحلة وفاق وتشارك يتعاون فيه الجميع على مواجهة التحديات التنموية وتقوية الدولة وترسيخ الديمقراطية.

إن التحديات القائمة اليوم والتي أصبحت أكثر حدة وبروزا بعد انتخابات 22يونيو تفرض التوجه نحو التوافق والانفتاح السياسي وتجاوز منطق أغلبية وأقلية موالاة و معارضة، وكما يقول أديبابو أديديجي الباحث النيجيري والمسؤول الأممي السابق "إن الأفارقة هم أساتذة الماضي في التشاور والتوافق والإجماع، إن تقاليدنا تمقت استبعاد الآخرين .ومن ثم، فلا توجد معارضة مصادق عليها وذات طابع مؤسساتي في نظامنا التقليدي للحكم. ولم يكن مجال السياسة بالنسبة إلينا لعبة يتعين فيها أن يخسر أحد الأطراف لكي يكسب طرف آخر".