قضية التحول المذهبي والفكري أو التموقع الحزبي ظاهرة قديمة قدم تطور عقل الإنسان ومداركه التي ينبغي أن يكون تقادم الزمن والتجارب إثراء لها لا "عوامل تعرية"، وهي ميزة اشتهر بها كبار العقول قديما في حضارتنا مثل الإمام الشافعي (القديم والجديد) والطحاوي (من المذهب الشافعي للحنفي) والباقلاني وابن دقيق العيد (جمعا بين المذهبين المالكي والشافعي)، ويزعم المالكية أن حجة الإسلام الغزالي صار مالكيا أواخر أيامه كما ذكر صاحب المراقي لكن شيخنا العلامة لمرابط اباه ولد عبد الله –حفظه الله- يعلق على قضية مالكية أبي حامد بالمثل العربي المشهور "ما يوم حليمة بسر"، والحركات الإسلامية وغيرها من التيارات الحديثة اشتهرت بقضية "المراجعات" وتعديل المواقف وتبديل النظر، وأحب العقول المعاصرة إلي الشيخ العودة فك الله أسره وقد كتب كتابا لطيفا عنوانه "نعم أتغير" جوابا لأسئلة من بيئته وغيرها كانت تحاكمه كل صباح ومساء على اجتهادات تتغير حسب الظروف المحيطة، وليس كل تغيير لموقف دليل ألمعية ولا أريحية، ومناقب الثابتين على "أشواك" المبادئ معروفة في القصص القرآني، ومظانها من كتب التاريخ والتراجم!
صحيح أن الفقهاء اشترطوا في الانتقال إلى مذهب آخر "صحة المقصد" ككونه سهلا أو أرجح لدى المنتقل فيما توصل له، كما أن "صحة المقصد" شرط في البقاء، ومن لطف الله سبحانه بعباده أن جعل المقاصد أسرارا، وهو وحده أعلم بالنيات، والأعمال الظاهرة والتضحية قرائن الصدق والإخلاص، وفي هذا يستوي العاكف والبادي، والمستقبل بيد الله، ختم الله للجميع بالحسنى.
من تجارب الإسلاميين المعاصرة المهم استحضارها في هذا الباب المقارنة بين حركة النهضة في تونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، وخصوصا فيما يتعلق بقضية المنسحبين أو المنشقين، ففي مصر صار "الانشقاق" ظاهرة وفرت موادَّ لمؤلفين ناصحين وآخرين تافهين، ولمقدمي برامج تلفزيونية كذلك، وفي تونس لا تكاد تلحظ ذلك، وبعض من ينسحب يعود في زمن ما لسابق عهده وإن لم يعد يكف "لسانه" وشره غالبا، وهذا عندي يعود لطبيعة اختلاف تكوين قادة التجربتين؛ فالتوانسة أهل علوم إنسانية حيث تتسيد "النسبية"، والإخوان فرج الله ما بنا وبهم والمسلمين من ضيق، أهل علوم تطبيقية حيث "الإطلاق" ضارب الجذور بين احتمالي الخطأ أو الصواب، وهذا الحكم أو الانطباع نسبي جدا، وقد كتب بعضهم مقالا مقارنا بين أهل قيروان عقبة، وقاهرة المعز عام 2014 عنوانه :"تجربة الإخوان والنهضة بين مراعاة النصوص ومسايرة المقاصد".
ليست موريتانيا استثناء من الانتقال والترحال فنحن قوم رُحَّل حسب "المواسم"؛ أحد الفضلاء المغتربين منذ عقود أخبرني قبل أيام أنه رغم دواعي الاستقرار المنزلي في مغتربه إلا أنه يغير سكنه لا عتبته كل عامين مرة، الحركات والتيارات ينتجها مجتمعها فتأخذ من سلبياته وإيجابياته، وقد أخذت حركاتنا من المجتمع الذي لم يتحضر بعد طبيعة الترحال والانتقال، بما فيها الإسلاميون والتجربة الموريتانية الإسلامية في "الانشقاقات" لها خصوصيتها الثقافية والتكوينية؛ فهي ليست انشقاقات حادة فهي حسب مستوانا في العلوم التطبيقية، وليست مرنة لأن العلوم الإنسانية بمفهومها الحديث ما زالت عالقة على حدودنا الشمالية في المملكة الشقيقة والجمهورية الشعبية، فنحن أهل فقه والمسائل عندنا تعتريها الأحكام الخمسة، واللغة ذات دلالات مكثفة، وفي تأويل مذاهب النحاة تكثر الاحتمالات، ونسختنا من العقد الأشعري توفيقية، وما وصل إلينا من الطرق الصوفية يعذر المخالف حسب المستطاع، ومن مأثورهم أن الإنكار عموما انعكاس "لضيق الباع".
منذ نشر موقع الأخبار إنفو أمس خبر دعم الشيخ السناتور عمر الفتح لمرشح الأغلبية، و"الفيسبوك الإسلامي" يعيش حالة من سيولة التعليقات المعبرة عن صدمة، والمتوازنة بوعي كاتزان رؤى ومواقف الرئيس أستاذنا محمد جميل منصور، وبعض التعليقات ذكر بقيمة "الثبات"، وأطرف تلك التعليقات المصدومة على غرابة هو أن أحد الفضلاء تخيل نفسه جالسا على مكتب خدمات دوره هو "تمشية الطابور"، وفاضل آخر أتى بأوابد من علم النفس مقتضاها أن المنسحبين يفرحون باللاحقين بهم كحالة نفسية، السؤال هل في العالم شخص سوي أو مجموعة طبيعية لا تفرح بالكثرة والزيادة ولو من الأنظمة التي عارضتها؛ إنما العزة للكاثر!
شيخ فاضل ينتمي لمدينة السيناتور المنسحب شاع أيضا خبر التحاقه بغزواني فنفى ذلك كتابة وتسجيلا، مؤكدا -أبقاه الله- أنه لن يترك تواصل "حتى يوسد في التراب دفينا"، و"يمين الحر في صدره"، لكن التعليقات التي أطاحت بمنجزات شمال إفريقيا الفكرية عبر عقود من الزمن تلك التعليقات التي جاد بها الأستاذ الفاضل أخي سيد أحمد باب فاستدعى –حفظه الله- كلاسكيات الإسلاميين الشاميين ليسقطها على أحوال أهل الصحراء كما يفعل أهل فيسبوك مع أشعار نزار قباني في تشرين وأيلول مع "فارق المناخ"، عتبت في سري كثيرا على الأستاذ سيد أحمد لإسقاطاته من كتاب "المتساقطون على طريق الدعوة"، لأمرين؛ أولهما: يتعلق بمجرد استحضار الكتاب وعنوانه في محل كهذا، والثاني: هو أن الإسلاميين المغاربة إذا فاخروا إخوانهم في المشرق قالوا نحن؛ أكثر منكم "مرونة سياسية" لأننا ابتدعنا "التمييز بين الدعوي والسياسي"، فلما ذا -لا أراك الله مكروها- تخلط بين الدعوة والسياسية؟؛ فأين "جمعية المستقبل" من حزب تواصل المعارض، و"حركة التوحيد والإصلاح" من حزب "العدالة والتنمية" الحاكم" سوى تعاقب نفس "القدوات" على قيادتيهما في "مراحل زمنية تعاقبية مباركة"، أعرف أن الأستاذ سيد أحمد منحاز "بيظانيا" للحقوق الصحراوية في تقرير المصير لكننا من إقليم "يميز بين الفكر ومواقف المملكة السياسية" فالفكر ابن الدعوة المباركة.
الحكمة شيء عظيم وخير كثير، وأشهر تعريف إجرائي لها أنها "وضع الشيء في محله"، وهذا يصدق في المحسوسات والأفكار والمواقف، فجعل الأمور السياسية الظنية المبنية على الاجتهاد المتغير حسب الأحوال والإدراكات كالأمور القطعية الدليل خطأ مفهومي "يجب أن يصحح"، وخلل فني في التصور ينبغي أن يراجع، وظلم في تقويم المواقف يتحتم أن يقاوم، ومن هذا قضية الانسحابات والدعم السياسي فهي أمور مهما أوهمنا أنفسنا بأنها مبادئ قطعية ستبقى أمورا ظنية تلجئنا إكراهاتها كل موسم سياسي؛ فالعاقل من عود نفسه ومن معه حقيقة ذلك حتى لا تتحول مبدئيته إلى "ثَقَّالات" معرقلة في موضع تطلب فيه الرشاقة الفكرية والسلاسة التعاملية والعذوبة الصلبة الجاذبة.
أدرك جيدا أن تاريخنا القريب يفيد أن أغلب المنضمين للأنظمة الحاكمة تشغلهم قضاياهم الشخصية عن مصالح العامة أو يذوبون في تيار الحكم بمعناه "السالب الناهب" من غير إضافة محسوسة وتغيير يثلج الصدر، وهو أمر يجب أن يستحضره الجميع؛ وعلى المغادر أيا كان محو هذه الصورة النمطية فيضع من لبنات الإصلاح ما يستطيع.
في الفروسية والوداع
كما ميز المغاربة بين مقامي الدعوة والسياسة وهو تمييز فقهي تراثي بالمناسبة تقتضيه طبيعة خلود شريعة الإسلام، يجب أن تكون إضافة الشناقطة؛ الفصل وليس التمييز بين السياسة والأدب، فبعض الفضلاء المعنيين المردود عليهم هنا غارق في الأدب، ويحب حماسة أبي تمام وأشعار قيس بن الخطيم، ومعتز بأمجاد أولاد امبارك لكن "خبر لعرب" عند المرحوم ول عوَّه، وأسمى قيم الفروسية الحرية، ومما أثر عن إمام قريش رحمه الله أن "الحر من راعى وداد لحظة..."، ومن الفروسية الحرة حسن الوداع وذكر المحاسن، سيما للمغادرين اجتهادا بصمت!