سبحان الله.. أحيانا، يأتي الإنصاف على شكل مأساة.. فقد جاء حريق كاتدرائية "نوتردام دي باريس" هذا الأسبوع نعمةً على مبيعات رواية "فيكتور هوجو"، التي تحمل نفس الإسم باللغة الفرنسية، حيث حطَّمت الرواية أرقام المبيعات على منصة آمازون، بعد يوم واحد من الحريق الرهيب الذي دمر جزئيًا ذلك المَعْلَم الباريسي الشهير.
لكن المفارقة هي أن حريق "نوتردام دي باريس" كأنما جاء ليذكرنا بأن ذلك النصب التاريخي كان قد سقط في غياهب النسيان لفترة طويل من الزمن وكاد أن يضيع نهائيا، لولا أن انتشلته رواية فيكتور هوجو، من مصيره المحتوم.. ليعاد تأهيل المبنى وترميمه في منتصف القرن التاسع عشر على أيدي اثنين من كبار المهندسين المعماريين الفرنسيين هما "يوجين فيوليت لو دوك"، و"جان بابتيست أنطوان لاسوس".
نُشرت رواية " نوتردام دي باريس" سنة 1831 في باريس، وترجمها " فردريك شوبرل" إلى الإنجليزية سنة 1833 تحت عنوان " أحْدَبُ نوتردام" ، وهو نفس العنوان الذي حملته الرواية عندما نقلت إلى اللغة العربية في القرن العشرين.
عُرِف "فيكتور هوجو"، كمبدع أصيل، أنصَتَ لأصوت الضعفاء والمحرومين، فلم يخلُد إلى الصمت ولم يعيش حياته بجبن. وقد كرس أدبُه موقفًا صلبا ضد الظلم وغياب العدل. ومن أجمل شخصياته الروائية شخصية الأحدب في رواية "نوتردام دي باريس"، حيث تدور أحداث القصة أواخر العصور الوسطى داخل كاتدرائية " نوتردام دي باريس". نجح" فيكتور هوغو"، من خلال هذه الرواية، في تقديم شخصية خيالية بمزيج من مظهر خارجي قبيح وصفات داخلية جميلة.
الأحْدَب، وأسمه "كوازيمودو" هو بطل الرواية. إنه طفل لقيط، قبيح المظهر، ابن عائله غجرية جاءت إلى الكاتدرائية بهدف السرقة، ولكن القس "فرولو" حاول الإمساك بهم فهربوا، وبقي "كوازيمودو" معه ليربيه ويدربه ليكون قارع أجراس الكنيسة. يتم اختيار "كوازيمودو" ليكون كبير المهرجين في احتفال سنوي للمهرجين، على أساس أنه صاحب ملامح الوجه الأكثر بشاعةً مقارنةً بما هو مألوف. وهذا ما لم يكن يرغب فيه سيِّدُه القس، الذي أراد أن يقضي ذلك "المعتوه" بقية حياته داخل أقبية الكنيسة، وألا يظهر أمام الناس لكي لا يرعبهم بسبب مظهره البشع.
لكن الأحدب "كوازيمودو" ومعلمه القس "فرولو" يقعان في حب الفتاة الغجرية الجميلة "إزميرالدا"، وهي من الشخصيات الهامة في احتفال المهرجين، التي حازت إعجاب الناس برقصاتها المغرية، لكنهما يدركان سريعا بأن الفتاة لا تحبهما بل ربما تكرههما. فتبدأ رحلة من الملاحقة والكيد يدبرها القس "فرولو" لكي يمتلك الفتاة بالعنف والاغتصاب. وعندما ييأس من نجاعة أساليبه معها، يقرر أخيرا التخلص منها.. فيقف هو والأحدب "كوازيمودو" في أعلى القلعة الشمالية للكاتدرائية، وهما يشاهدان من علٍ منظر إعدام الفتاة.. وعندما يلاحظ الأحدب "كوازيمودو" تلك الإبتسامة الماكرة على وجه القس "فرولو" وهو كأنما يستمتع بزهق روح "إزميرالدا"، يبادر إلى إلقائه من أعلى البرج، ليتحطم رأس القس على رصيف الكاتدرائية.. ثم يهرع الأحدب ليحمل جثمان فتاة أحلامه ويهرب.. ليلقى مصرعه بعد ذلك.
لقد استطاع "فيكتور هوجو"، من خلال رواية " نوتردام دي باريس" أن يتسامى بقصة حب رجل لإمرأة، إلى مراتب دفء الجمال الإنسانى، عبر تصوير واقع الأحدب المرير بفعل الإعاقة والقبح والقمع. فأدرك بأعماقه الداخلية أن فناء جسده القبيح ربما يعنى استمرارية أعماقه الإنسانية الجميلة بالبقاء.. من خلال تقديس ذلك الحب المحروم منه..
كانت رواية عظيمة.. إنها حقا إبنة "فيكتور هوجو" الكبرى التي أنقذ بها كاتدرائية "نوتردام دي باريس" من خراب محقق.. قبل حوالي مائة وسبعين سنة.. واليوم ينقذ حريق هذه الكاتدرائية رواية "فيكتور هوجو" من تلافيف النسيان..
* عنوان من وحي دردشة اليوم مع المثقف الكبير محمد يحظيه ولد أبريد الليل
السفير محمد السالك ولد ابراهيم