تدوينة المستشار الإعلامى للرئيس

رأت تدوينة لأحد الظرفاء يحكي فيها تجربته مع الثقافة والمقهى، فأردت أن أشاركه تجربة مماثلة...

الشاعر...
جلس على نفس الكرسي، الذي اعتاد الجلوس عليه منذ سنوات. تطلع في الأفق، الذي حفظ تفاصيله.. وضع علبة السجائر، والولاعة، على يساره، ثم أخرج المفكرة الصغيرة، وقلم الرصاص من جيب سترته.. استقام في جلسته، ونزع نظاراته، تنفس نفسا عميقا... لا يزال المقهى خاليا من أغلب رواده. وهذه هي اللحظة، التي يختارها لبداية إبداعه...
ـ صباح الخير، أستاذ.
ـ صباح الخير.
وضع النادل فنجان القهوة، وكأس الماء، ثم انسحب برشاقة.
رشف من القهوة، ثم أشعل سيجارة، وسحب منها نفسا عميقا.. فتح المفكرة، وبدأ يقرأ ما أنجزه بالأمس من القصيدة؛ خط تحت صدر، ووضع علامة على عجز، ثم رمى قلم الرصاص، وحدق في الأفق... فكر:
"هذه القصيدة، من بين كل القصائد، التي كتبتها، أرهقتني كثيرا، لا تريد أن تبدأ، أحرى أن تنتهي! رغم ذلك أجد فيها متعة، لم أجربها في غيرها... أحس، لأول مرة، أنني أتحدث عن إحساسي الشخصي، أنني أكتب لذاتي، بعدما كتبت للآخرين كثيرا..."
عاد إلى الكتابة:
عيناك بحرا رمال تتحرك نحو الشمال
تزحف مثل جحافل الأعداء
تجرِف، مثل سيل هادر، كل التلال
عيناك شفاء، وداء...
وضع قلم الرصاص.. أخذ يتأمل ما كتب.. فكر: "جاء هذان البيتان بسلاسة لم أعهدها من قبل! كأنما كنت أحفظهما." أحس بفرح غامر.. رفع يده للنادل، فجاءه بفنجان آخر، احتسى منه رشفة، ثم استلم قلم الرصاص...
عيناك. مسح الكلمة بعصبية." ينبغي أن أنتقل إلى موضوع آخر، أخذت العينان حقهما وزيادة، لا بد من عدالة في توزيع الأبيات على الموضوع، هكذا علمتنا الاشتراكية... ما ذا بعد العينين؟"
أخذ يفكر، كيف ينتقل من العينين، إلى موضوع آخر، لا يفسد وحدة القصيدة، بل يعمل على ترابطها، وانسجامها. كان مهتما كثيرا بالنظريات النقدية، التي يحرص على تطبيقها، وإن أرهقه أحيانا، اختلافها، بل تناقضها. ورغم ذاك الإرهاق، فقد حرص، منذ تعرض لنقد لاذع من أحد النقاد، على أن يتقي شر أولئك الذين لا يكتبون بيتا واحدا، لكنهم يكمنون للشعراء، أمثاله، ليسفهوا إبداعاتهم...
منذ تلك الحادثة الأليمة، اشترى بعض كتب النقد الأدبي، وكتب العروض، والنحو. لكنه وجد صعوبة، أيما صعوبة، في فهم طلاسم الفراهيدي، ولم يستطع تقويم لسانه، حسب قواعد سيبويه، لذلك وجد أن التقيد بالنظريات النقدية أسهل، فاكتفى به... عاد يفكر في موضوع قريب من العينين.. وجده فجأة.
وجنتاك تفاحتان من الجبل الأخضر
تتشحان باللون الأحمر
كأنهما في الفلانتاين
تغنيان:we are fine
" يا الله! يا الله!" رفع صوته، دون أن يشعر، فجاءه صوت النادل، متهكما..
ـ"ما أخبار الإلهام اليوم، يا أستاذ؟"
ـ "في أحسن حالاته. ما أن أبدأ بيتا، حتى ينساب القصيد من تلقاء نفسه، لا يقف، حتى أوقفه عنوة. اليوم يوم مبارك. لا تقاطعني، فتُجفِل الجِنِّي. شوف شغلك!"
ابتسم النادل، وانشغل بطلبات الزبائن، الذين بدؤوا يتوافدون...
عاد يقرأ ما كتب برضى غامر. اليوم يوم فتح حقا. أخيرا سينهي هذه القصيدة، التي أرهقته، سينهيها اليوم بالذات، لأنه يفكر في قصيدة أخرى، لمناسبة أطلَّت، وما أكثر المناسبات، التي يطلب منه فيها إلقاء قصائد، قديمة، أو جديدة!
عاد إلى قلم الرصاص، ثم تساءل: "ماذا بعد الوجنتين؟" فكر.." وجدتها!"
خداك ملعبا كرة مضرب
فسيحان، مثل سهول المغرب
يلمعان، مثل واجهة الدكان
أخطر من الـH1N1
شعر بإنهاك، بعد هذين البيتين، فقرر أن يتوقف. أعاد قراءة ما كتب، فبدا له أن حصيلة اليوم كانت أكثر من مرضية... في الأيام العجاف، كان يكتب بيتا واحدا، أو بيتين، في أحسن الأحوال. أما اليوم فالحصيلة وافرة. وبدأ يخطط ليوم غد. سيسير على نفس المنوال؛ وحدة الموضوع هي أهم ما سيركز عليه... سارت الأمور، اليوم على ما يرام؛ انتقل، بسلاسة من العينين، إلى الوجنتين، ثم الخدين.. غدا سيهتم بالأنف، والشفتين، وهكذا، سينتهي الديوان بأخمص القدمين... لكنه غير راض عما كتبه بالأمس عن الشّعر، والجبهة. لم يكن أمس في أحسن حالاته، مثلما كان اليوم. لكن وحدة القصيدة تحتم عليه إيلاء الشَّعر والجبهة، نفس الاهتمام، الذي أولاه للقطع الأخرى، كما نصت قوانين الاشتراكية العلمية: كفاية في الإنتاج، وعدالة في التوزيع.
لكن، هذه معضلة. كيف يعود إلى الشَّعر، والجبهة، بعد أن أوغل في الجسد؟ لا بد من حل لهذا الإشكال. لا يمكن إقحامهما، بعد أن قطع هذا الشوط الطويل، ومع ذلك لا بد من إعادة صياغة ما كتبه بالأمس... فكر طويلا، ثم اهتدى إلى الحل...
بعد الانتهاء من أخمص القدمين، يعود إلى الشَّعر والجبهة، عود على بدأ، ليصبح الديوان شبيها بأفعى تعض ذيلها، وقديما شبهت المرأة بالأفعى... بدا له الحل عبقريا، فدونه في مفكرته، حتى لا ينساه. رشف صبابة الفنجان، ونهض يريد الباب. سمع صوت النادل، مزعجا...
ـ ثمن القهوة يا أستاذ!
تظاهر بأنه لا يسمع، لكن حين رفع النادل صوته، شعر بالغضب، وأحس بالفضيحة.. استدار نحو النادل، وحاول ابتسامة لم تكتمل..
ـ خيرك، يا احميده! تعلم أنني أدفع دائما، وأن لدي دفتر حساب عندكم، فلا داعي للشوشرة.
قال النادل، موضحا:
ـ لكنك تأخرت هذه المرة كثيرا، وصاحب المقهى يخصم من راتبي، إذا لم تدفع، فهل يرضيك أن تشرب قهوتك، كل يوم، على حسابي!
ـ لا تقلق! سألقي هذه القصيدة في مهرجان دولي، قريبا، وستكون المكافأة مزجية، أعدك ببقشيش لم تلتقطه من قبل... سأدفع ديوني.. فكر: " هذا مطلع قصيدة رائع، سأدفع ديوني... علي أن اقتنص لحظة الإلهام هذه." نظر إلى النادل نظرة استرحام..
ـ فنجان آخر على حسابك، فقد جاءني الإلهام...