
يشكّل التحوّل السياسي في موريتانيا منذ عام 1978 مسارًا معقّدًا تداخلت فيه عوامل بنيوية وسياسات ظرفية، ما يجعل قراءته ضرورة لفهم الواقع الراهن. وقد قدّم النائب محمد بوي في صوتيته الأخيرة قراءةً معمّقة لأبرز العوائق التي أعاقت اكتمال هذا التحوّل، من ضعف البنية الحزبية وغياب معارضة ناضجة، إلى ما يدعوه العراقيل التي تضعها الأنظمة المتعاقبة، وهو توصيف يسلّط الضوء على جذور الإخفاقات المتراكمة. غير أن هذا التشخيص، رغم دقّته، يجد في التوجه الحالي ملامحَ إجابة عملية، إذ تتشكل بهدوء مقاربة جديدة تسعى لتفكيك تلك المعضلات بخطوات تدريجية أكثر رسوخًا.
ينطلق هذا النهج من رفض إعادة إنتاج ما رسّخته المراحل السابقة من عراقيل، ويتبنى مسارًا يقوم على التهدئة السياسية وبناء الثقة الوطنية. وقد انعكس ذلك في توسيع فضاءات الحوار الوطني حول القضايا الكبرى، وفي السعي إلى شراكة تجعل السلطة والمعارضة طرفين متكاملين لا متنافرين. فالتهدئة ليست غايةً بحد ذاتها، بل بوابة لإصلاح أعمق يعيد هيكلة الحقل الحزبي ويمنحه بعدًا مؤسسيًا حقيقيًا.
وفي هذا الإطار، جاءت الإصلاحات الجوهرية لقانون الأحزاب السياسية لتشكل خطوة محورية في مسار التحديث السياسي؛ إذ نُقلت المنظومة الحزبية من إطار شكلي إلى ركيزة أساسية لإعادة بناء الحياة السياسية. وإذا ما طُبّق هذا القانون بروح إصلاحية مرنة، فسيحوّل الديمقراطية من نصوص جامدة إلى ممارسة حيّة، ويفتح الباب أمام تجديد النخب وتعزيز الثقة بين الدولة والمجتمع، بما يمهّد لتحوّل سياسي أعمق وأكثر توازنًا.
لكن هذه الخطوات، رغم أهميتها، لن تبلغ أهدافها دون تطور موازٍ في أداء المعارضة؛ إذ لا يزال خطاب بعض القوى السياسية يميل إلى الشعارات أكثر من تقديم بدائل عملية قابلة للتنفيذ. ويبدو أن التوجه الحالي يسعى لتهيئة أرضية لتحوّل عميق وهادف، لكن اكتماله مرهون بقدرة الطيف المعارض على استيعاب هذا المسار بروح منفتحة، تنظر إلى المشاركة بوصفها مدخلًا لبناء مستقبل وطني مشترك. وهنا تكتسب الحوارات الوطنية وإعادة تنظيم الحقل الحزبي أهمية مضاعفة، باعتبارهما أدوات لتطوير الحياة السياسية تدريجيًا مع الحفاظ على الاستقرار.
إنّ ما يلوح في الأفق ليس مجرد إصلاحات متفرقة، بل ملامح مشروع سياسي هادئ يعيد رسم قواعد اللعبة السياسية على أسس جديدة. هذا التحوّل لا يقوم على القطيعة ولا يستعجل النتائج، بل يبني تراكمًا متدرجًا يضمن استقرار الدولة وانفتاحها في آن واحد. غير أن نجاحه يظل رهينًا بوعي مختلف الفاعلين بحساسية اللحظة، وبضرورة تغليب روح المشاركة على منطق المغالبة، وإدراك أن الإصلاح الجاد لا يتحقق بالتسرّع والانفعال، بل بالصبر الاستراتيجي والإرادة الجماعية.
فالأمم التي تُحسن إدارة لحظات التغيير بهدوء وحكمة هي وحدها القادرة على تحويل الأزمات إلى فرص، وبناء مستقبل أكثر رسوخًا وشمولية
محمد لحظانه المستشار الفني لوزير التجهيز والنقل مكلف بالنقل الجوي
#زهرة_شنقيط
#تابعونا