كنت وما زلت جفولا من منظر الموتى، فأنا منذ أن وعيتُ أمشي خلف الجنائز إلى المقابر وأشهد صلاتها ولا أتخلف إلاّ لسبب داع، ولكنني أصرف ناظري عن التدقيق في جسد الميت ولا ألمسه إلاّ مرة واحدة وضعت فيها يدي متهيبا على جبهة فاضل من أهل العلم .
ولذلك أجدني دائما جفولا أبتعد عن الجنائز محاولا أن تظل معي عبرتها وعظتها دون مناظرها.
وقد قيل إن أثر منظرها كان يُرى على وجوه السلف إلى ثلاثة أيام ،
وكل تلك الجفلة إنما تحصل لي مع الأجساد الساكنة الطرية مكتنزة البدن غير منقوصة اللحم ولا العظام فما بالك إذا كانت عظاما أو رفاة رميما!
إلا أن طبيعتي تلك سرعان ما تبدلتْ هذه الأيام وأنا أبصر تلك الجماجم المنيرة وبقايا أشلاء شهداء الجزائر الذين لم أرَ فيهم تلك البشاعة التي يلحظها الرائي في العظام الخالية من سترها اللحمي الذي يكسوها جمالا ويمنحها قوة وبهاءً، فاللحم ستر العظم واللباس زينة الاثنين ، وإذا انكشف أحدها تعرى العظم فبان عُواره وتبدت بشاعته.
فيا سبحان الله كيف رأت عيناي في تلك الجماجم بدل البشاعة جمال الرفعة وشموخَها، وبدل الرِّمّة بقاء الجهاد وخلوده !؟
وكيف رأيت أمتنا مغلوبة لكن جماجمها رغم رِمّتها وانكسرها ما تزال خالدة تقاوم وتحفظ لأهل البسالة بسالتهم، ولأهل الغدر خيانتهم،
نعم لقد رأيت في الاستقبال المشرّف من الأمة الجزائرية لتلك الجماجم معاني الوفاء يولد في ضمير الأمة كلها، الوفاء الرافض للمحو، المخلّد للبطولات، الفاطن لدعاية وصم الجهاد الشريف بالإرهاب.
إن الذي عاد إلى الجزائر ليس عظاما نخرة إنما هو رايات النصر وأعلام الفتح ومآثر الخلود وبسالة التضحيات كل تلك الجماجم بقيت جمرا ملتهبا يوقد العزائم ويقدح فينا الغيرة ويدفعنا إلى التحرير ويمدنا بطاقة الاندفاع طيلة الزمان المديد ؛
نعم رأيت في تلك الجماجم حال أمة غلبت لكنها لم تختفي، قتلت لكنها لكنها باقية الأثر.
نعم لقد رأيت في تلك الجماجم جمالا أغْيدَ ما رأيت أحسن منه قط في ما رأيت من الوجوه، رأيت في الأنف شموخا، وفي العين حوَرا، وفي الجبهة سعة، وفي الفم تلمظا على الظلم، وإصرارا على الانتقام،
لقد خيل إليّ أن أبناء تلك الكوكبة من المجاهدين وأحفادهم قد شرفهم الله بوثيقة نسب منقطعة النظير ليس نسب الدم واللحم فقط، لكنّه نسب موثق بالصوت والصورة إلى الجهاد والتضحية في سبيل الله ولخير الأمة.
نسب يرفع الرأس، ويبعث على المجد، ويوصل بالخلود الدائم، فإن هذه الكوكبة من الشهداء تعلن اليوم للأمة المستسلمة للهوان، والمسارعة في الغدر والتقرب من المخالف، تعلن لها قائلة:
لقد كتب الله للموت العزيز أن يبعث في هذه الأمة الأمل في الحياة الشريفة، ويحيي فيها الثقة بالمستقبل، فإن حالنا حين
استشهاد هؤلاء الكوكبة كان أقل وكان أذل من حالنا اليوم الذي نحن فيها أكثر عدة وعتادا ووعيا ووسائل.
نعم رأيت في تلك الجماجم حال الامة وهي وإن كانت جماجم فارغة من القوة إلا أنها مخيفة للأعداء ظلوا يحتفظون بها في سجونهم توثيقا لعدم إنسانية المحتل من أسلافهم الذي وثّق بهذه الجماجم غدره وبشاعة انتقامه ودمويته تجاه شعب الجزائر المقاوم العظيم،
ثم هي عزيزة على الأبناء حين يرون أجساد الاباء تعود بعودة تلك الرؤوس الشامخات، كما هو رأي بعض أهل العلم، يستقبلهم الشعب الجزائري منارات وأوسمة قد حفرت للأمة مجدها الخالد في الجبال الراسيات لتبعث في أجيالها الجديدة روح الجهاد وتدفع فيهم طاقة الأمل وروح الاستبسال،
ما زلت حائرا لا أدري كيف تغيّر طبعي القديم فرأيت في صور تلك الجماجم الشريفة غير ظاهرها فأحسست بقربها مني، ورأيت في قربها أنسا، وبها شاهدت الصور التي أبغي في أمتي، رأيت فيها العنفوان، والإقدام، والتضحية، حتى لكأن أبا تمام يعنيها حين قال:
وقد كان فوت الموت سهلا فرده☆ إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف العار حتى كأنه☆ هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
نعم لقد رأيت في تلك الجماجم أيضا واقع فلسطين وقضيتها المركزية، وبطولات رجالها ونسائها، وبوارق انتصارها القادم بإذن الله حين نكرم أبطالها الخالدين.
نعم ما زلت حائرا في سر إلفي لمنظر تلك الصور وعدم جفلتي منها، بل استرواح نفسي حين تأملها، فلعل مرد ذلك لصلة قديمة ونسب بعيد كان بين والدي يرحمه الله وبين بعض رجالات الثورة الجزائرية التي كان في الصحراء الكبرى يفتي دعما لجهادها، ويتبرع ويحرض المؤمنين ...
وتحية بيراع الشاعر محمد الامين مزيد :
(يا ابنَ باديسَ قرَّ عينا فما ضا عتْ علومٌ نشرْتَها في البصائرْ
ودروسٌ ألقيت َفي "الجامع الأخــْضرِ "تُحيي بها مواتَ الضمائرْ
إنَّ تلكّ الجهودَ قد أثمرت شعـــْباً أبِيا متيَّماً بالمآثرْ
وشبابا يعيشُ لله قد أخـْلصَ لله دينَه فهو طاهرْ
ثائرٌ بالجزائر الآن يقفو☆ خُطُواتِ الأمير عبد القادرْ
ثابتُ الخطوِ واثق أن َّ وعدَ الله حق والدين- لا بد- ظاهرْ
لغةُ الضاد ياابن باديسَ عادتْ
والرطاناتُ حظُّها اليومَ عاثرْ
وهتافُ الجزائر الآن يحيا في ظلال الإسلام شعبُ الجزائر
يا بلادَ الجهادِ يا أرضَ مليــون شهيدِ حيّاكِ مليونُ شاعرْ؟)
محمد غلام الحاج الشيخ