هل تستعيد باريس نفوذها بموريتانيا ومنطقة الساحل؟

شكلت قمة "بو" بفرنسا، وأحداث الخارجية الموريتانية الأخيرة (استقالة أو إقالة بنت أوفى) لحظة تحول فى العلاقات الموريتانية الفرنسية، بعد عشر سنين من التوتر المحكوم بمصالح الأطراف، ومحاولة الخروج من محور السيطرة الفرنسية بالقارة السمراء.


 

الرئيس الفرنسى "مانويل ماكرون" حاول ابتزاز الأفارقة بسحب قواته المكلومة فى نخبة جنودها بمالى، والمتهمة بالانشغال فى تأمين حقول الذهب واليورانيوم عن قتال القاعدة أو حماية الحلفاء، وهو ماتم له فى النهاية، ليمرر رسالة بالغة الخطورة على صورة الزعماء الخمسة الذين أجتمع بهم فى ضواحى باريس، والأمن الهش بالمنطقة المنكوبة بفعل تمدد الجهاديين فيها، ومحاولة الفرنسيين والأمريكيين اتخاذها ميدان رماية، يجربون فيه بعض الأسلحة المتطورة، دون حسم للمعركة أو تأثير فى مسارها على أقل تقدير.

 

لقد ظهر القادة الخمسة فى قمة "بو" وهم كمن يستجدى بقاء القوات الفرنسية بالمنطقة ،بل وزيادتها ببضعة جنود، رغم الآلاف الذين خرجوا فى العاصمة المالية باماكو، وغياب أي تأثير لها على الأرض بموريتانيا، وعجزها عن حماية جنود النيجر من الموت الوئام ، وهم الآن يدفعون ثمن تأجيج الغرب للصراع بالمنطقة والبخل فى مد الضحايا بما يحمون به أنفسهم من مصير لم تجد معه قرارات الإقالة والتعيين.

 

لقد تحول الرئيس الفرنسى العاجز عن مواجهة أوضاع بلده الداخلية المضطربة منذ حراك أصحاب السترات الصفراء، والمهزوم دبلوماسيا وعسكريا فى ليبيا، والمنبوذ من قادة أوربا وأمريكا فى عرينه (حلف النيتو) إلى بطل يجمع الرؤساء بتغريدة، ويجتمع بهم فى عقر داره، و"يجبرهم" على طلب التمديد لقواته بالمنقطة وزيادتها، حتى ولو كانت الشعوب فى الميادين تهتف ضد الرئيس الفرنسى وقواته ىالعاجزة عن تحرير الشمال من قبضة القاعدة أو تأمين الوسط وسكانه.أما رئيس النيجر، فقد غادر العاصمة "أنيامى" ولما يدفن ضحايا جيشه وقد تجاوزوا 100 ضابط وجندى فى مجزرة رهيبة، نفذتها أيادى البطش المتربصة بكل قوات المنطقة منذ 2005.

 

لقد كانت رسائل "بو" مهينة لكل أبناء منطقة الساحل، وموريتانيا فى طيلعة المستهدفين بالمحاولة الفرنسية الرامية إلى العودة بقوة للساحل والتأثير فيه من جديد. بعدما أحست بقرب أفول نجمها لصالح قوى دولية أخرى، كروسيا وتركيا والصين، فى ظل اهتمام الدفاع الروسية المتزايد بالأزمة المالية، ودخول تركيا كلاعب تجارى وعسكرى فاعل بمنطقة الصحراء الكبرى خلال السنوات الأخيرة، وتحول الصين إلى أكبر شريك اقتصادي للمنطقة، وأهم قوة مالية تدعم مشاريع التنمية فيها.

 

لقد حاولت موريتانيا خلال العشرية الأخيرة الخروج من مظلة الفرنسيين، وتمكنت من تأمين حدودها الطويلة، وتطهير الداخل من كل خلايا القاعدة وأخواتها، دون رصاصة فرنسية واحدة، كما رسمت حدود مقبولة للعلاقة بين المستعمر السابق والدولة الوطنية، رغم بعض الهنات هنا وهنالك، وتعلق بعض أزلام الفرنسيين بالنموذج الغربى فى التعليم والصحة و"الأخلاق"، بيد أن القرارات الكبرى فى مجال الدفاع والأمن كانت تصاغ دون تشاور معها، وتنفذ دون استعانة بها، وكانت الدولة الوحيدة التى رفضت أكثر من مرة أن تكون ملحقا لباريس فى زيارة رؤسائها السابقين للقارة السمراء، مما ولد حالة من القطيعة بين الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، والرؤساء الفرنسيين الذين عايشوه، رغم التعاون فى مجال الأمن والاستخبارات العسكرية.

 

لقد رفض الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز- رغم المآخذ الكبيرة على بعض سياساته- بصراحة وصرامة الرؤية الفرنسية لما يجرى فى ليبيا، وحمل الفرنسيين مسؤولية انهيار الوضع بالمنطقة، بل وأتهم الرئيس الفرنسى السابق وسياساته بالوقوف خلف مايجرى فى الدول الأوربية من أحداث دموية، بفعل سياساته السلبية فى سوريا، وأشتبك سياسيا وإعلاميا معه فى العديد من تفاصيل الأزمة المالية، منذ الانقلاب على الرئيس تومانى تورى إلى غاية إعادة انتخاب بوبكر كيتا، وكانت باريس فى مجمل تلك المواقف منحازة إلى قوى سياسية بالمنطقة لها أجندة أخرى مغايرة للتوجه الموريتانى، ومصالح تحاول تمريرها بدعم من الفرنسيين.

 

لقد بلغت العلاقة السيئة بين الطرفين ذروتها عشية طرد المستشارين العسكريين الفرنسيين من موريتانيا، بعد إعلان الدفاع الفرنسية عن نجاح قواتها فى قتل 100 مسلح بالمنطقة، وهو ما فهمت منه نواكشوط محاولة خلط متعمدة للأوضاع الأمنية بالدول الثلاثة التى شملها البيان، والترويج لدور فرنسى مزعوم بموريتانيا.

 

وفى السادس عشر من يناير 2015 عمق الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز الأزمة حينما خرج للجماهير رافضا المشاركة فى المسيرة المتضامنة مع الصحيفة الفرنسية شارلي إبدو.

 

 وقال ولد عبد العزيز فى كلمة وجهها للآلاف أمام القصر إنه لن يشارك في أي مسيرة تسيء للإسلام أو الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، في أي بلد أو تحت أي ظرف مهما كان، في إشارة إلى عدم مشاركته في مسيرة باريس، التي دعت لها فرنسا قادة دول العالم، للتنديد بالعملية التي استهدفت مقر "شارلى إيبدو".

 

وحينما صعد بعض النواب الأوربيين ضد الحكومة الموريتانية وموريتانيا بشكل عام ، واتهموها بأنها أرض للمتاجرة بالعبيد . وصف ولد عبد العزيز حراك البرلمان الأوربي بداية يناير 2015 بأن سببه هو الصيد وليس العبودية، مستغربا سكوت الأوربيين علي العبودية لعد عقود إلي أن تعطلت اتفاقية الصيد مع موريتانيا خلال الأشهر الأخيرة من عام 2014 لإثارة الملف والقيام بحملة إعلامية ضد البلد.

 

وقد حاولت فرنسا تشويه صورة البلد الداخلية والتأثير على سير الأحداث فيه، و أصدرت عبر سفارتها في 29 أكتوبر 2016 تحذيرا لرعاياها في موريتانيا من عمليات سطو قد تستهدفهم بالأحياء الشمالية للعاصمة نواكشوط في سابقة هي الأولى من نوعها للسفارة.

 

وفى الخميس الموالى للبيان، شن الناطق الرسمي باسم الحكومة وزير الثقافة محمد الأمين ولد الشيخ هجوما لاذعا على بيان السفارة الفرنسية معتبرا أنه جاء متحاملا وحمل رسائل غير ودية من فرنسا للدولة الموريتانية.

 

وبعد حديث الوزير بساعات قليلة أطل مدير أمن الدولة بموريتانيا المفوض سيدي ولد باب الحسن عبر التلفزيون الحكومي متحدثا عن أن حدود البلاد مراقبة ومضبوطة وإن بعض الجهات التي لم يسمها تسعى لضرب استقرار البلد وأمنه.

 

وقد كان ملف التدخل العسكرى فى مالى أبرز ملفات الخلاف، وأوضح ملفات الرفض المحلى للهيمنة الفرنسية، بعدما تمكنت باريس من حشد الأفارقة لمستنقع الموت بصحراء أزواد دون حماية جوية أو تسليح يذكر، وكانت خسائر أتشاد قبل انسحابها من المستنقع أبرز نموذج على الارتجال وأوضح نتائج الإستسلام للضغط الفرنسى دون مقاومة أو تفاوض.

ولخص ولد عبد العزيز موقف البلد فى خطاب ألقاه عبر التلفزيون من ولاية آدرار 2013 .

 وقال ولد عبد العزيز خلال حديثه أمام الآلاف من الموريتانيين في برنامج "لقاء الشعب" من مدينة أطار شمال البلاد" إن موريتانيا ليست مهتمة بموقف الفرنسيين ولا الأمريكيين في قضية التدخل العسكري بمشال مالي، بل تراعي في ذلك مصالحها ومدى تهديد الإرهاب لها".

وقال ولد عبد العزيز إن بلاده لن تشارك في التدخل العسكري في شمال مالي، مؤكدا أن موريتانيا ليست في حرب ضد تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، بل حربها ضد المجموعات المسلحة وعصابات التهريب التي استهدفتها قبل فترة وقتلت عددا من الجنود الموريتانيين في حادثتي "تورين" و "الغلاوية".

مواقف قوية ظلت تحكم السياسية الخارجية الموريتانية، وخصوصا العلاقة مع الفرنسيين، فهل يتم العدول عنها؟ وهل سيستمر الرئيس محمد ولد الشيخ الغزوانى على نهج سلفه وصديقه الذي كان أبرز معاون له فى المجال العسكرى والأمنى، أم أن ضغط الفرنسيين والأزمة الداخلية بعد خلاف المرجعية ستدفعه إلى تغيير الموقف واتخاذ أجندة جديدة؟ وهل ستقبل موريتانيا بلعب دور ثانوى فى الساحل أم أنها ستظل تقاوم من أجل أن تكون الجيوش المحلية صاحبة الكلمة الأولى فى أي مواجهة محتملة مع القاعدة وقوى التهريب بالمنطقة؟.

 

سيد أحمد ولد باب / مدير زهرة شنقيط

نواكشوط : 14 يناير 2020