التراويح "26" سورة (ق)

لئن كانت قصة الأعراب في نهاية الحجرات تتحدث عن الارتياب في الدين الذي يخالط قلوب الأعراب، وعن الفرق بين الإسلام الذي دخلوا فيه، والإيمان الذي لَمَّا يدخل في قلوبهم بعد، فإن السورة هنا تتحدث عن الكفار وإنكارهم للإسلام والإيمان معا؛ "بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ" وفي السورة رد على الفريقين؛ حيث تبين بالبراهين صحة ما بعث به الأنبياء، " أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ"
والسورة تسير على نسق التنزيل المكي؛ مرشدة للعبرة في القرآن، والتفكر في قصه ووعظه، ودلالاته وتوجيهاته...

فبعد التفكر في السماء، وما ينزل منها، والأرض وما يخرج منها، والحديث عن حال الأمم الخالية، ويقينية البعث والموت والنشور، جاءت قصة الاختصام تحض على العدل، وتنهى عن الظلم، لتبين السبيل الوحيد الذي به تستقر المجتمعات، وتسود فيه السعادة، ويطمئن الجميع أفرادا وجماعات، وتجمع السورة بين الحسنيين في أسلوبها، حيث تجمع بين مخاطب العقل ومخاطبة القلب؛ تخاطب العقل فتعرض البراهين الدالة على صحة ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، وتخاطب القلب فتفصل مصير المكذبين وتصف الموت وما بعده من أهوال وصفا مؤثرا بلغة عجيبة لا تترك لمن يتذوق البيان العربي سبيلا غير سبيل الإيمان والإذعان، وتشير السورة في ختامها إلى إعجاز القرآن العظيم، وقدرته على التأثير "فذكر بالقرآن من يخاف وعيد".

سورة "الذرايات" إنها مكية تصدق وتوكد ما بسابقتها؛ فإذا كانت سورة "ق" تتحدث عن قدرة الله وتثبت ذلك بما تعرضه من البراهين الكونية، فإن سورة الذاريات تركز على قضية الوعد والوعيد، وتصور حال أصحاب الجحيم، وترسم كذلك صورة لأصحاب النعيم: " يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (*) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (*) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (*) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ..."

وتشير السورة كذلك إلى نعم الله، وإلى ما يخص به عباده المخلصين في الدنيا قبل الآخرة، وفي هذا السياق وردت قصة إبراهيم "هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ..." كما تبين السورة في ختامها الهدف من خلق الإنس والجن: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (*) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ" وتختم السورة بمخاطبة من لم يراعي سبب خلقه، فآثر الكفر على الإيمان، واختار الظلم على العدل "فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (*) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ"
سورة "الطور" مكية تُتم بدايتها نهاية الذاريات؛ تثبت العذاب وتوكده؛ تركز على مقاصد التنزيل المكي ومرحلته الدعوية، تبين عصمة رسول الله من الناس "والله يعصمك من الناس"، وفي هذه السورة تفصيل لأغلب المحاور التي وردت في السورة الأولى، ففيها تفصيل لعذاب أهل النار"هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ..." ونعيم أهل الجنة: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (*) فَاكِهِينَ بِمَا آَتَاهُمْ..." كما تعرض الحجة البينة على صحة ما بعث به محمد صلى الله عليه وسلم: "أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (*) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ" وفي الختام توكد السورة مصير المكذبين وتشير إلى حفظ الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وتأمره بالصبر على الدعوة والشكر على النعمة: " وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (*) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ".

سورة "النجم" إنها المدنية المتممة للطور؛حيث ذكرت الأولى "وإدبار النجوم"وهنا بدأت هذه ب:"والنجم إذا هوى "واتحدتا في الحديث عن القرآن؛ وبيان صحة نزوله من لدن حكيم خبير، إنها تستحث الإنسان إلى الهدف والغاية "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (*) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى" وفي الختام بينت السورة سبيل النجاة " فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا".

سورة "القمر" مكية تتحدث عن اقتراب الساعة وفي سابقتها "أزفت الآزفة"، وفيها إشارة لطيفة إلى لطف الله بالمظلومين؛ كما تجليه قصة نوح: ""فدعا ربه أني مغلوب فانتصر" دموع المغلوب، وفؤاد المستضعف، وكف المتضرع، ثلاثة تصل المخلوق الضعيف بخالقه القوي فتسخر له الكون، وتفتح له أبواب السماء، وتتفجر الأرض بحول الله وقوته، هكذا تتحدث السورة عن قصص الأنبياء السابقين مع أقوامهم، مبينة مصير المكذبين من الأمم السالفة، ومبينة أن القرآن الكريم حجة باهرة لا تترك لمنكره حجة في الكفر؛ ولذلك ربطته السورة بآيات الأنبياء السابقين، فورد في نهاية كل قصة " وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" وفي السورة توكيد لمقاصد التنزيل المكي، حيث تستمر نبرة الوعيد والتخويف: "وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ" وتختم بتبيان ما ينتظر أهل الجنة من نعيم: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (*) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (*)
سورة "الرحمن" إذا كانت السورة السابقة تتحدث عن القرآن باعتباره معجزة وآية كآيات الأنبياء السابقين، وتشير إلى أن الله يسره للهداية للتي أقوم، وذلك في سياق إنذار المكذبين، فإن سورة الرحمن تبدأ بالحديث عن القرآن أيضا في سياق ذكر نعم الله على الإنسان، وفي البدء بالقرآن إشارة واضحة إلى أنه النعمة الكبرى التي بها تعرف بقية الآلاء، وفي بقية السورة تفصيل لنعم الله، وحديث عن آياته في خلقه، وتبيان لما ينتظر أصحاب النار وأصحاب الجنة يوم الحساب.
سورة "الواقعة" مكية وهي ـ لذلك ـ تسير على النسق الذي سارت عليه أخواتها وفيها تفصيل لما سبق في سورة الرحمن من حديث عن الجنة والنار، وحديث عن مصائر المبتلين، كما تتحدث عن بعض تجليات قدرته تعالى، وعن النعم التي أنعم بها على البشرية لتدلها على الخالق من جهة، ولتعبده حق عبادته من جهة أخرى، الشيء الذي نلمسه في الحديث عن الزراعة: "أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (*) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ..." والحديث عن الماء: "أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (*) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ.." وفي الحديث عن نعمة النار التي قد تتحول إلى نقمة حين لا تشكر ولا تؤدى حقها: "أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (*) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ..." وتشير السورة في نهايتها إلى الأدلة الكونية.

الإعجازية "فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (*) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ" وتربط ذلك بصحة القرآن الكريم، وفي ذلك إشارة واضحة إلى وجود الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وفي الختام تتحدث السورة عن مصير الإنسان من موته إلى محاسبته ودخوله الجنة أو النار ثم تحث على التسبيح في خطاب موجه له عليه الصلاة والسلام: "فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ..."

الدكتور :افاه ولد الشيخ ولد مخلوك