نهاية سريعة لجهاز أمن الطرق بموريتانيا

نجح قادة الأجهزة الأمنية في وضع حد لجهاز أمن الطرق بموريتانيا، ولما يكمل عامه الخامس في أسرع  تغيير يقوم به رئيس الجمهورية محمد ولد عبد العزيز لمهام الأجهزة الأمنية منذ توليه مقاليد الحكم رسميا في انقلاب 2008.

 

الجهاز الذي أسس كبديل مقنع لجهاز الشرطة بعد عقود من سوء السمعة جراء عمليات القمع والتعذيب والابتزاز والفساد، لم يصمد طويلا هو الآخر بفعل الصراع الدائر بين كبار القادة العسكريين، وهشاشة الحكم القائم بموريتانيا، وضعف الإستراتيجية المتبعة حاليا.

 

مخاض النشأة

 

شكل اعلان الحكومة الموريتانية القاضي بسحب جهاز الشرطة من شوارع العاصمة نواكشوط أفضل خبر تداوله آذان الموريتانيين بعد الاطاحة بالرئيس معاوية ولد سيد أحمد ولد الطايع 2005، لكنه شكل صدمة للآلاف من منتسبي الجهاز ممن بنوا خططهم علي "الشارع ومستحقاته"، مع أنه مفاجئة لجيل جديد من الضباط كان يحلم أو يتوق لأخذ مساحة في الحراك القائم داخل أروقة السلطة، قبل أن تحشره قرارات الرئيس داخل جدران مفوضيات مهترئة في الغالب، مسلوب الصلاحيات، فاقد للتأثير بحكم ضعف الحاجة اليه، وسوء السمعة التي خلفتها سنوات الظلم الماحقة.

 

وظهر جهاز أمن الطرق بألوان "حمير الوحش" داخل شوارع العاصمة نواكشوط، بتشكلة شبابية في الغالب، وأحلام واعدة، ومساعي حثيثة لفرض القانون وهيبة الدولة في مجتمع متخم بالكثير من المتناقضات.

 

كلف ولد عبد العزيز أحد كبار مساعديه بقيادة الجهاز الجديد، بل بتأسيسه، وكان الجينرال مسغارو ولد سيدي هو الشخص المنتدب للمهمة التي وصفت بالشاقة، رغم أنها مغربة لضابط يريد كتابة ماض عسكري، في بلد يزخر بالضباط من مختلف الرتب والتوجهات.

 

اعتمد أمن الطرق سياسة صارمة في التعامل مع المخالفين للقانون، وحشر آلاف العربات داخل محاشر نواكشوط، ودخل في صراع مرير مع مراكز القوة بالعاصمة بحكم تماسه اليومي مع مختلف السكان، ومن مختلف المستويات الإدارية والقضائية والعسكرية، ناهيك عن كل العاملين في قطاع النقل وهم كثر.

 

كانت صرامة رجال أمن الطرق مزعجة للبعض، ولكنها كانت محل افتخار من قادته وبعض المراكز التنفيذية ممن تحاول اضفاء صبغة من الجدية علي الحياة السياسية بعد انقلاب 2008، وتحويله وكأنه بداية التاريخ.

 

زادت من مرارة الواقع الذي تمر به الشرطة اقترانه بالعقيد اعل ولد محمد فال في نظر العديد من صناع القرار السياسي، وشكلت معارضة الرجل للنظام مبررا كافيا لتحييدها من المشهد، رغم بعض الاهتمام الجزئي الذي منح لها ابان تولي الجينرال محمد ولد الهادي قيادة الجهاز خلفا لقائد الجيوش العامة محمد ولد الغزواني.

 

الصراع يحسم للعقيد

 

شكلت السنة الماضية أوجه مظاهر الصراع داخل المؤسسة العسكرية، وبدت الصورة قاتمة في ظل تنافس قوي علي قلب الرئيس وقربه بين دوائر متعددة الانتماءات الجهوية والفكرية ومتباينة من حيث الحضور والتكوين.

 

وقد كان الصراع الدائر علي جهاز الشرطة أكثر من واضح للجينرالات الثلاثة ( محمد ولد مكت، محمد ولد الهادي، مسغارو ولد سيدي)، لكن معادلات الحكم المعروفة حسمت الصراع للجينرال محمد ولد مكت لأسباب يدركها اغلب المهتمين بصناعة القرار السياسي بموريتانيا، وكان الأمر يقضي تغييرا في هرم الأجهزة الأمنية التابعة للداخلية من أجل الإنسجام بدل التصادم.

 

تم سحب الجينرال مسغارو ولد سيدي إلي الأركان الخاصة لرئيس الجمهورية، وكانت تلك فرصة العقيد العائد من واشنطن لبات ولد المعيوف من أجل الظهور إلي جانب كبار الضباط، مستفيدا من بعده المناطقي، وسمعة والده (فياه ولد المعيوف)، وابتعاده عن الصراعات العسكرية التي عاشتها البلاد في المرحلة الأخيرة، مع أن ولائه للرئيس مضمون، وتفاهمه محل كبار الجينرالات محسوم بحكم الأقدمية وانتفاء المعاصرة.

 

ورحل الجهاز

 

كان الجينرال مسغارو ولد سيدي يعد العدة لتوسيع نفوذ جهاز أمن الطرق الذي تسمي به لدي كافة الموريتانيين، وكانت أفواج الخريجين الجدد في طريقها إلي مراكز جديدة في لعصابة وأترارزه وتيرس رمور، بعد أن أسس لكتيبة أخري بنواذيبو العاصمة الاقتصادية للبلد.

 

غير أن خطط الرجل تم توقيفها ولما تكتمل من خلال الغاء مسابقة الضباط إلي اشعار جديد، قبل أن يغادر الجهاز، ليكون أول جينرال يسلم مهامه لعقيد علي رأس مؤسسة عسكرية منذ استقلال البلاد عن فرنسا 1960.

 

لكن المثير للضحك أن الجهاز الذي حاول التوسع باتجاه المناطق آنفة الذكر، حوصر في عقر داره، حيث باتت مقاطعة عرفات التي يتخذها مقرا عاما له تحت قبضة الشرطة، وبات اغلب ضباطه ووكلائه عرضة للتوقيف في شوارعها بتهمة عدم اكتمال الأوراق، في ظل وجود جهاز جديد هو من يسر المنطقة بالفعل، ولديه من المظالم وتصفية الحسابات مع أمن الطرق مايكفي لتحويل شوارع عرفات إلي ساحات للمطاردة كل يوم، في ظل السلوك الذي يعرف به جهاز الشرطة، وهو عدم تركيزه علي المحاور الرئيسية بل التجول داخل أزقة المقاطعة الضيقة من أجل تصيد ضحاياه، وانتقاء بعض المبتلين بوعدته إلي العمل من جديد بقرار رئاسي هذه المرة.

 

وبغض النظر عن مدي نجاعة الخطة الجديدة أو الامكانيات المتاحة للشرطة من أجل تعويض الفراغ الذي سيحدثه انسحاب أمن الطرق من شوارع العاصمة نواكشوط، فان الأمور تتطلب من قادة الجهاز ومنتسبيه أن يتذكروا جيدا أنهم في عصر "الفيس" و"الواتساب" والكاميرات الخفية، وأن السلوك الذي مورس ابان 2003 -2005 غير قابل للمارسة الآن، بحكم أنه سيعجل من جرجرة الشرطة أمام بوابات القضاء، وسيحرج الرئيس الذي يتاجر بالشفافية ومحاربة الفساد باعتبارهما البضاعة الوحيدة لديه.