عودة الاهتمام الروسي بأفريقيا.. التجليات والحسابات

سيدي ولد عبد المالك ​كاتب وباحث موريتاني متخصص في الشؤون الأفريقية

يعود اليوم اسم روسيا إلى واجهة الأحداث الدولية عبر تأثيرها في جملة من الأحداث العالمية الساخنة، وتأتي هذه العودة -فيما يبدو- ضمن إستراتيجية جديدة تسعى من خلالها موسكو لحجز موقع مؤثر وفاعل في المشهد السياسي الدولي؛ ولذلك لا تبدو قارة أفريقيا في منأى عن دائرة الاهتمام الروسي.

فقد أظهرت روسيا -في السنوات الأخيرة- اهتماما متزايدا بأفريقيا تعددت مظاهره ما بين السياسي والاقتصادي، وذلك عبر مساندة المواقف الأفريقية وتوجيه مؤسسات استثمارية روسية للعمل في أفريقيا.

وتنطلق حسابات الانفتاح الروسي على أفريقيا من طموح موسكو الساعي لمنافسة القوى العالمية التي بدأت تتقاطر على أفريقيا على مدار العقدين الأخيرين، ومن سعي موسكو لكسب تأييد الدول الأفريقية في إطار الاصطفافات الحاصلة في الملفات الخلافية الدولية.

شيء من التاريخ
تعود روسيا لأفريقيا بعد فتور طويل طبع علاقات الطرفين كان لانهيار الاتحاد السوفياتي عامل كبير فيه؛ فقد انحسرت الصِّلات التقليدية والولاءات الإستراتيجية التي نسجتها روسيا بأفريقيا إبان فترة الحرب الباردة.

لقد كان الاتحاد السوفياتي لاعبا رئيسيا في أفريقيا خلال ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم، حيث وفرت روسيا مظلة أيديولوجية وسندا عسكريا وداعما للحركات الأفريقية المناهضة للاستعمار وللإمبريالية العالمية.

وكانت علاقات الاتحاد السوفياتي بأفريقيا مكثفة وقوية ومتنوعة، وقد عززتها الدوافع الأيديولوجية التي غذت آنذاك الاهتمام الروسي بأفريقيا، مما ساهم في زيادة النفوذ العسكري والسياسي والتجاري والثقافي لموسكو داخل القارة.

فقد شكلت موسكو منافسا أيديولوجياً شرسا ومقلقا للقوى الاستعمارية لأفريقيا وحليفاتها كفرنسا وأميركا، وقد دفع هذا القوى ذات التأثير في أفريقيا لتصفية رجالات موسكو أو تحييدهم، كحادثة اغتيال الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا -المحسوب على الاتحاد السوفياتي حينها- عام 1961.

لقد أدى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991 إلى تلاشي مرتكزات النفوذ الروسي بأفريقيا؛ فقد أغلقت روسيا الكثير من السفارات والمصالح الدبلوماسية والقنصلية والاقتصادية والمراكز الثقافية الروسية، وتراجع تدفق الطلاب والموظفين الأفارقة على روسيا بسبب قطع المنح الدراسية والدورات التكوينية، كما تقلصت بشكل كبير المساعدات الروسية المقدمة لأفريقيا.

وتراجع تبعا لذلك الحضور الروسي في أفريقيا بدرجة كبيرة، ففقدت موسكو معظم أدوات التأثير الناعم والخشن في هذه القارة، بعد أن كانت تمتلك أكثر من 40 ألف مستشار في مجالات التعاون العسكري والثقافي والاقتصادي في 40 بلدا أفريقياً خلال 1970-1975.

تدخل روسيا أفريقيا مجددا ضمن دبلوماسية جديدة شعارها تنويع العلاقات الخارجية، والتحرر من الاعتبارات الأيديولوجية التي كانت مطية روسيا لإيجاد موطئ قدم بأفريقيا، وذلك إثر انحسار بل اختفاء الحركات اليسارية التي تعتبر الظهير الأيديولوجي الداعم لروسيا في الأحزاب السياسية وقوى المجتمع المدني بأفريقيا.

وتُركز روسيا -في هذه العودة- على أدوات التجارة والاقتصاد بوصفها مفاتيح لشراكة قوية مع أفريقيا. وترجمت هذا التوجهَ زيارةُ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عام 2006 لبعض الدول الأفريقية، رفقة وفد كبير من رجال الأعمال.

وسعت موسكو في السنوات الأخيرة لتعزيز روابط التحالف الإستراتيجي مع دول وازنة في أفريقيا من خلال الاتفاق لإنشاء منطقة حرة للتبادل التجاري مع المغرب ودراسة إنشاء مشروع مفاعلات نووية لأغراض سلمية بجنوب أفريقيا.

كما قام الكرملين باستحداث منصب مستشار خاص بأفريقيا على مستوى وزارة الخارجية الروسية، في خطوة تعكس قوة الاهتمام بالملف الأفريقي في دوائر صنع السياسة الخارجية الروسية.

بين المنافسة والشراكة 
ألغت روسيا عام 2009 حوالي 80% من ديونها الخارجية على أفريقيا التي تصل نحو 25 مليار دولار أميركي، كما أرسلت عام 2017 أول شحنة من الأسلحة إلى دولة وسط أفريقيا بعد حصولها على موافقة من مجلس الأمن بذلك.

ووقعت شركات روسية عقودا للتعاون في المجال المنجمي مع حكومات أفريقية، كما دخلت شركتا "أورالتشم" (Uralchem) و"أورالكالي" (Uralkali) الروسيتان المنتجتان للأسمدة للقطاع الزراعي في زيمبابوي وزامبيا، من خلال توقيع اتفاقيات مع حكومتي البلدين تتعلق بتوريد الأسمدة.

إلا أن معاناة الاقتصاد الروسي من مشاكل هيكلية -بسبب اعتماده على عائدات الطاقة وتأثره بالصدمات الخارجية- قد تبطئ تقدم روسيا على قائمة الدول المؤثرة اقتصاديا وتجاريا في أفريقيا.

إن الأهمية الإستراتيجية لأفريقيا -التي تتزايد مع مرور الوقت- تضع تحديات جسيمة أمام القوى الساعة للتأثير فيها، وذلك نظرا لحجم المنافسة ولمتطلبات التنسيق والشراكة.

لا تعتبر روسيا اليوم لاعبا رئيسيا في أفريقيا بالنظر لرصيد حركة تبادلاتها التجارية مع القارة التي تناهز حوالي خمسة مليارات دولار أميركي، في حين يبلغ معدل تبادلاتالصين التجارية مع أفريقيا 85 مليار دولار، ويصل بالنسبة لتركيا إلى 20 مليار دولار.

كما أن تأثير روسيا -رغم عضويتها في مجلس الأمن- يظل محدودا جدا في مجال توجيه السياسات الخارجية لأفريقيا، عكس القوي الاستعمارية التقليدية لأفريقيا (فرنسا وبريطانيا مثلا) والولايات المتحدة الأميركية.

إلا أن كل هذا لا يعني عجز موسكو -في المنظور القريب والمتوسط- عن تأسيس مرتكزات تأثير سريعة على المستوى الأفريقي؛ فموسكو قد توظف لصالحها الإرث الاستعماري لدول ما زالت ذات تأثير في أفريقيا كفرنسا مثلا.

ويبدو أن روسيا باتت تزعج هذه الدول بسبب دعمها رسميا لفك ارتباط عملات دول أفريقية باليورو بتغطية من الخزانة الفرنسية؛ فقد تداولت تقارير صحفية -في فبراير/شباط الماضي- خبر لقاء عُقد بين وزير الاقتصاد الروسي ونظيره الفرنسي، وهدد فيه الأول باللجوء إلى فرض عقوبات اقتصادية على البضائع الفرنسية إذا واصلت باريس فرضها ربط العملة الأفريقية بالمصالح الاقتصادية لفرنسا.

ونٌقل عن الوزير الروسي قوله في هذا اللقاء: "لا يمكن أن نتفرج على الفقر المدقع الذي يعيشه الأفارقة بسبب عملة مفروضة عليهم؛ الاستعمار انتهى وآن الأوان لأن ينال الأفارقة استقلالهم الكامل".

ومن ناحية أخرى؛ قد تصب السياسة الخارجية الأميركية الحالية ومواقف وتصريحات الرئيس دونالد ترمب تجاه أفريقيا في صالح الحسابات الروسية، فمن المحتمل أن تؤثر سياسة "العزلة" التي يتبناها ترمب على تراجع النفوذ الأميركي في أفريقيا.

ومن المؤكد أن سخرية ترمب من الأفارقة وإهاناته المتكررة لهم ستترك جرحا غائرا في ذاكرة النخب الأفريقية حاكمةً ومحكومةً، مما سيُضعف رصيد الثقة بالولايات المتحدة الأميركية مستقبلا.

لكن روسيا تحتاج رسم سياسة مشتركة مع حلفائها وشركائها الاقتصاديين -وبوجه خاص الصين- لخلق تكتل دولي مؤثر في مجالات السياسة والاقتصاد، ينسق ويتكامل بطريقة تضمن منافسة القوى التقليدية المستأثرة بخيرات أفريقيا والمهيمنة على قرارها السياسي والسيادي.