ولد الحاج الشيخ يكتب : جميل كان رافعة حقيقة للحركة الإسلامية (*)

كانت ليلة شاتية في مسجد مصعب بمقاطعة تيارت المعروف باسم "امسيد ولد امحود " بدايات سنة 1985.. وعلى المنبر الإسمنتي جلس شاب عشريني داكن اللون طويل الشعر وسيم الوجه خفيف اللحية مدورها وبلغة عربية قحة وبلاغة خطابية لا تخفى تناول ذكرى الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

 

لفت انتباهي أن الشاب لم يسرد الأحداث سردا كما كنّا يومها نقرأ في السيرة ولم يستشهد بأنظام ولا نقول ..بل تناولها بتأمل في المعني مركزا على بعد التضحية عند ابي بكر وحذاقة وحصافة بنيه وهم يخططون للهجرة ويردمون الأثر عن عيون قريش، تحدث عن عبقرية النبي صلى الله عليه وسلم في التخطيط وعن التكامل بين استنفاد الجهد البشري والحيطة وأخذ كل الوسائل وبين انتظار وعد الله بالتمكين والنصر.

 

تحديث عن الاستشراف النبوي وعن غرس معالم الأمل في صفوف الناس جميعا، عندما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعد سراقة بن مالك بسواري كسرى.

 

سمعت في تلك الجلسة الماتعة روحيا وفكريا شيئا جديدا تماما عن الاسلام والسيرة إنه روح جديدة وقوة وعزيمة ومغالبة أوضاع مستحكمة وشق الطريق لدعوة تُجلب الى مجتمع جاهلي تغرس قيما جديدة وترفع للتوحيد منارة على أنقاض الأوثان بعد الدرس كان كل شيء بالنسبة لي جديد.

فالذي يتحدث عن الاسلام بتلك الروح وذلك البيان كان مختلفا تماما عن معاييري يومها كواحد من طلاب المحاظر لم يكن شيخا كبيرا يقدم صورة شيخه في التكرار والدرس مركزا على لازمتي كالك ..واسمعت ذاك..لم يكن يستعرض القدرات القاموسية ولا البراعة في الإغراب اللغوي ولا كثرة الشواهد والتقييدات،

 

كان شابا انيقا ينتمي لأهل سنه في العمر لا يختلف معهم في كثير شان اللهم إلا ماكان من اهتمام بأمانة ناءت بها السماوات والأرض والجبال بعد انتهاء الصلاة اجتمع الى الشاب زملاء من في سنه وتياره يتقاطعون معه في سمت الاناقة ورونق الاستقامة ونباهة وحذاقة حملة الفكر أذكر منهم الاستاذ أكليكم ولد أحمدو والشيخاني ولد بيب وآخرين سلمت عليهم ووقفت قرب حلقتهم كانوا في سن متقاربة وهم يكبرونني بسنوات لم أجرؤ على الدخول معهم فقد كانوا يناقشون أنشطة لنادي مصعب والجمعية الثقافية والإسلامية.

 

انتحيت الى اترابي في المحظرة وسألت من المتحدث الليلة فقالوا إنه جميل ولد منصور..عدت إلى لوحي وتكراري ولكن تلك الذكرى وذلك الصوت كان دافعا أساسيا فيما كان بعد من العلاقة مع جميل وإخوان جميل.

 

فتح لي جميل يومها مع السيرة بابا جديدا، لم أكن قد ولجته وقراءة حكيمة لم تكن متاحة في المحاظر والمتون وطعما لا يدركه غير المكابد لمعاناة الاصلاح .

 

ثم قدر الله تعالى أن نلتقي في منابر الجمعية الثقافية الاسلامية وندوات جمعية غرناطة وكنت أخوض في صف جميل وأصحابه معارك الرأي مع التيارات الفكرية المنافسة في أنشطة محفورة في الذاكرة أنعشها كبار مثل العلامة محمد سالم ولد عدود وجمال ولد الحسن ومحمد فاضل بن محمد الأمين وأبو بكر بن أحمد وغيرهم من الأعلام والعلماء.

 

توطدت العلاقة بيننا علاقة القدوة والأسوة ولم أكن مدركا حجم ما كان بين يدي ذلك الشباب والقسط الذي ينتظرني منه حتى كان يوما في الجمعية الثقافية الاسلامية كنت أمسك بمنكبيْ جميل من وراء ظهره سألته بإلحاح عن سبب منعه من أوراق السفر فأجاب لأنني من الاخوان أدركت أن الطريق صعب وطويل سلمه وان بعض الاكدار والابتلاءات والمحن تنتظر السائرين فيه على الدرب،

 

شق الاستاذ جميل منصور طريقه بعصامية من غبراء نقاش الثانويات مرورا بأسر التربية ومنابر الخطابة في المساجد والاندية فبز أقرانه ومن سبوقوه وبعصامية فذة شق جميل طريقه فكان رافعة حقيقة لأبناء الحركة الاسلامية الذين تقدم صفوفهم في نشاط دائم وحيوية لا تنقطع صاحبها تبارك الله أحسن الخالقين لا يعرف الكلل ولا الملل كان جميل دائما في الصدارة مع اخوانه يتقدمهم في معارك الفكر في الجامعة وأنشطة السياسة وبيان الاعلام طيلة العقود الثلاثة أزعم ان جميل لم يأخذ فيها أياما للراحة أو الاستجمام.

 

دفع الاستاذ جميل ثمن الرمزية مضاعفا فقد حرم من بعض المسابقات وتمت عرقلة النجاح في غيرها كما عزل من البلدية التي انتخبته الجماهير لإدارتها تعرض لسيل من التشويه منقطع النظير من جهات متعددة منافسة في الفكر متضررة من صعود الإسلاميين كما ان أجهزة الدولة أشاعت عنه من حديث الإفك ما صدقه بعض ضعاف النفوس والذين لم يظنوا بالمؤمنين خيرا كابد الاستاذ جميل بثبات أوضاعا مادية عسيرة في مسار حياته وكان بحق متعففا عكس ما يروج له أصحاب الهوس التكسبي.

 

أشهد للأستاذ محمد جميل منصور بجميل الخلال وكريم الأخلاق فهو متواضع لطيف سخي الكف عفيف الذمة ولست في ذلك بالمنفرد، فتلك صفات يعرفها عن الرجل كل من خالطه مثلي؛

كما أشهد للأخ جميل بنظافة اليد من المال الذي سير طيلة إدارته لتواصل خصوصا في أيام الحملات الانتخابية وما تشهد من تدفق للعون المالي من مناضلي الحزب

 

وحسبكم أن جميل طيلة فترات رئاسته للإصلاحيين الوسطيين ثم للحزب ظل رافضا لأي شكل من أشكال الخدمات المتناسبة مع مكانته وأهمية وقته فقد رفض بقوة أن يكون له مرافق أو سائق خاص بل فوق ذلك رفض أن يشتري له الحزب سيارة، والسيارة الي يملك هي تلك المدفوعة من سيارة منحتها له الجمعية الوطنية بالقرعة عندما كان نائبا في البرلمان.

وعندما خرج من وظيفة نائب وأصبح بدون راتب فطلبنا منه أن نفرض له من الحزب راتبا يناسب حاجته رفض وقبل ان يأخذ فقط 120 ألف التي هي راتب المتفرغين من العاملين في الحزب الذين لا وظائف لهم خارج ذلك ثم في أول شُح مالي تعرض له الحزب قطع ذلك المبلغ عن نفسه.

 

عند ما كان نائبا كان صوتا للحق مزلزلا، يجمع بين سداد الرأي ووضوح الفكرة وجمال التعبير وجميل النضال ومنصور المواقف كان نائبا عن الشعب كله يحمل همه، وكان صوت الإسلاميين الندي الصداح بالحق المبهر للخصوم.

 

أعرف عن جميل اهتما خاصا بالصلاة وحضورا فيها يصل حد الإرهاق وروحانية ورقة قلب ولين دمع وتأوه استغفار قد يصل مسحة تصوف رائق، وأعرف عنه أنه يألف ويؤلف.

 

وأعرف عنه أكثر شدة بره وحنانه بوالديه، وحسن معاملته لهم، وحسن ثنائهم عليه.

 

نعرف أن جميل من الكتاب الكبار والمفكرين المتنورين

وأنه أضاف بحق في مجالات المعرفة المختلفة من نير الفكر ودقيق الفهم ما يعتبر مفخرة لموريتانيا التي أنجبته والصحوة الاسلامية التي أطرته

وإن أمر على رق أنامله

أقر بالرق كتاب الأنام له

 

شكلت الحركة الاسلامية لجميل منصة انطلاق لمواهبه المتعددة ماشاء الله كما كانت الحاضنة الروحية بأخوة الاخوان وتضحياتهم وتكاتفهم حول قادتهم واستبسالهم من أجل الصالح العام كل ذلك يجعل القائد شيئا مذكورا برهط الإيمان وسواعد المخلصين. 
ولكن فضل جميل بعد الله كان كبير ا فيما هي عليه من وضوح في الفكرة وحسم في مجالات الإشكال السياسي والفكري والاجتماعي حيث جر جميل القاطرة نحو الوعي المبصر لإشكاليات مجتمعنا المتنوع.

 

لست في وارد حصر مالجميل من مميزات فذلك ما لا يسعه مقال على أثر أيام من الإرهاق ولكن الأستاذ جميل من كبار مجددي الفهم الاسلامي الحديث وهو مطالع نهم رغم كل مشاغله في السياسة وكثرة الاجتماع الا انه يطالع عموم المكتوب في البلد وجديد الإصدارات في عالم الثقافة والفكر،.

بارك الله سعي جميل وضاعف له أجره وأمده بالصحة التامة والمعافاة الدائمة في النفس والأهل والمال والولد.

 

ولا زال ذلك البيت الرباني بيت الدعوة وسراج الإخوان ومنار العاملين للإسلام المتبصر، ففي ذلك البيت الجميلي صنعت وكتبت فواصل مهمة من تاريخ العمل الإسلامي، فكرا وسياسة ومواقف

يغادر جميل منصب قيادة الحزب لكنه لم ولن يغادر منصبه البارز في القلوب حبا وإكبارا وتقديرا.. فأدم اللهم لتلك القلوب رابطتها وأنر بنورك شغافها.

 

إنها قلوب قد اجتمعت على محبتك والتقت على طاعتك وتوحدت على دعوتك

 

وتعاهدت على نصرة شريعتك

فوثق اللهم رابطتها

وادم ودها وهدها سبلها

واملأها بنورك الذي لا يخبو

واشرح صدورها بفيض الإيمان بك

وجميل التوكل عليك وأحيها بمعرفتك وأمتها على الشهادة في سبيلك

إنك نعم المولى ونعم النصير

(*) محمد غلام الحاج الشيخ