جهاز الشرطة بموريتانيا .. الصراع من أجل البقاء

أمام عدد من الصحفيين بفندق مونتل بالعاصمة نواكشوط يقف الرجل الأول بجهاز الأمن العام بموريتانيا اللواء محمد ولد مكت مستعرضا مهاراته الخطابية في ملتقي إقليمي للحديث عن الجهود الموريتانية في مواجهة الإرهاب ومكافحة المخدرات، وما آلت إليه الأمور خلال المأمورية الأولي للرئيس.

 

وأمامه يجلس الثلاثي النافذ بدرجات متفاوتة -  مدير الأمن السياسي المفوض الرئيسي سيدي ولد سيد محمد ومدير الأمن الجهوي المفوض الرئيسي فضيلي ولد الناجي ومستشار المدير العام للأمن المفوض الرئيسي محمد عبد الله ولد آده – وهم يستمعون إلي الخطط التي نفذت خلال السنوات الماضية والجهود القوية التي خاضتها قوات الجيش والأمن في مواجهة الجريمة.

 

يدرك الثلاثي الجالس، كما هو حال المدير العام للأمن الواقف، أن الجهد الأكبر كان من فعل وتخطيط قوي أخري أثبتت خلال السنوات الماضية أنها أكثر فاعلية، وأقدر علي مواجهة الأخطار الخارجية من الجهاز الذي فوض طيلة العقود الماضية بتولي المهمة دون جدوي، بل زادت تصرفات بعض أفراده من لهيب الوضع الداخلي، وساهم سلوك بعض العاملين فيه في خلق جيل من الجهاديين الحاقدين علي الدولة بفعل التعذيب والتهميش، والكشف عن مخططات وهمية لتفجير أو استهداف مراكز حيوية بموريتانيا.

 

غير أن بعض المتابعين للوضع الداخلي يرون أن الجهاز تمت تصفيته بشكل غير معلن، وبات من أكثر الأجهزة في العالم الثالث نقصا في العدد والعدة والتكوين منذ تولي الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز مقاليد السلطة بموريتانيا.

 

يدار جهاز الشرطة في الغالب من بعض الضباط القادمين من الجيش أو الدرك، وتعاقب عليه منذ انقلاب الجيش علي السلطة أربعة قادة بينهم قائد الجيوش العامة اللواء الركن محمد ولد الغزواني، والأمين العام لوزارة الدفاع اللواء محمد ولد الهادي،وقائد جهاز الدرك السابق اللواء أحمد ولد بكرن، وقائد المخابرات الخارجية اللواء محمد ولد مكت،بينما ظل ضباطه يتحركون داخل مواقع محددة ضمن سياسة محاور يغذيها حرص كل قائد علي العمل مع فريق جديد، دون استحداث آليات أكثر ديناميكية لتفعيل الجهاز أو حل مشاكله.

 

خلال السنوات الأخيرة عاشت الشرطة أسوء مراحلها منذ التأسيس، وباتت محل تنكيت من قبل الموريتانيين أو جزء من الموريتانيين علي الأصح.

 

اضطر عدد من الضباط الشبان للفرار من الخدمة العسكرية رغم الكفاءة العالية، وهمش آخرون رغم الشهادات الكبيرة والتجربة الأمنية التي تمتد إلي عشرات السنين، وباتت أغلب مفوضيات العاصمة شبه خالية بفعل نقص الوكلاء في ظل سياسة تجفيف المنابع التي اتبعتها السلطات الموريتانية تجاه الجهاز والعاملين فيه، وتم القاء نتائج بعض المسابقات المحدودة، ودخلت الترقية في صفوف الجهاز مرحلة التجاذب بين القيادات الأمنية.

 

كانت مفوضيات الشرطة عشية سقوط الرئيس معاوية ولد الطايع حوالي عشر مفوضيات في العاصمة نواكشوط، لكنها تضاعفت خلال الفترة الأخيرة إلي أكثر من 32 مفوضية، دون أن يسمح للإدارة العامة للأمن باكتتاب أي شرطي أو حارس علي الأقل، لقد كانت مهمة الإدارة الجهوية للأمن بنواكشوط شبه مستحيلة، أما الإدارات الداخلية فتلك قصة أخري، ومأساة تحتاج إلي أكثر من نقاش عابر.

 

تضاعف سكان العاصمة نواكشوط، وتناثرت المساكن فيها بفعل السياسات المتبعة في مجال الإسكان، وأعيدت هيكلة العديد من المقاطعات، ولم تجد الإدارة العامة للأمن من العناصر أو الوسائل مايمكنها من مواكبة التطور الحاصل في الجريمة، لقد تحول المدير الجهوي للأمن وكبار الضباط العاملين معه إلي نشطاء في مركز فكري، أو مؤسسة بحثية تتولي أرشفة الوقائع، وكتابة الأحداث التي تفرزها العاصمة كل صباح، ويعمل أصحابها ضمن ظروف قاسية لمعرفة الجناة من أجل أرشفة أسماء "أبطال" مقاومة القانون، بدل مواجهة الجريمة أو إحباطها، إنها لعبة مميتة لسمعة جهاز غادر مديره السابق أو أبوه الفعلي – كما يحلو للوكلاء تسميته - وهو في أسوء مراحله بفعل سوء السمعة وسوء العلاقة مع كافة الفاعلين السياسيين والعسكريين.

 

يتطلع جهاز الشرطة إلي نفض الغبار عنه مع تعيين مدير جديد، لكن هل الرئيس مستعد للأمر أو مقتنع به؟ وهل ما تزال الشرطة قادرة علي تجديد ذاتها، والعمل وفق آليات جديدة تمازج بين ضبط الوضع الداخلي واحترام القانون؟

 

يدرك الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز كما كل الموريتانيين أن الجهاز بوضعه الحالي لا يسر صديقا، ولا يغيظ عدوا، وأنه بات من أكثر الأجهزة الأمنية المهددة بالانقراض في إفريقيا مالم يفتح مجال الاكتتاب فيه.

 

سيارات متهالكة، وبنية تحتية متقادمة، ورواتب هزيلة مقارنة بباقي تشكيلات الأمن الداخلي، وعدد أفراده أقل من أهل الصلاح والخير في تشكلة الرئيس الحكومية  التي بدأ بها مأموريته الثانية .

 

ينصت ضباط الضباط الأفارقة إلي العاملين في جهاز الأمن الموريتاني، وهم يحكون قصص ألف ليلة وليلة، ويستعرضون مهاراتهم الخطابية والعملياتية في مواجهة الجريمة والإرهاب داخل الصحراء، لكنهم لا يدركون أن  الأسد الذي ينظرون إليه منهار القوي بفعل المسؤولين عن حديقة الحيوان داخل البلد.

 

لجهاز الشرطة فرقة لمكافحة الإرهاب من أحسن التشكيلات العسكرية تكوينا، لكنها وحيدة بعد أن تم توقيف التكوين الخارجي أو المفيد منه علي الأصح، ولديهم مجموعة من الوكلاء تتقن فن إلقاء القبض علي اللصوص، لكنها غير قادرة علي استيعاب العاصمة بمقاطعاتها العشرة، أو مواجهة سيل الجرائم الذي تقذف به أحياء الترحيل والميناء ودار النعيم وعرفات، في ظل وسائل متواضعة ومكافئات معدومة في أغلب الأحيان، ولديه نخبة من الضباط الشباب،لكنها تحتاح إلي الخبرة والوسائل والتكوين، وتعزيز المكانة بين القوي العاملة علي الساحة حاليا من أجل السماح لها بالقيام بدورها مع ترقية الجانب الحقوقي لديها، فالمواطن الذي يطلب الأمن ينشد الحرية والكرامة، ومن مهام الأمن توفير كل ذلك، فهو الغاية والوسيلة لمختلف الأجهزة الأمنية والإدارية.